الوفد
مصطفى عبيد
خارج السطر.. إعلام التنمر والخرافة
ليس للإثارة معنى سوى الإثارة. لا مردود ولا ناتج، لا منافع للناس، لا خير، غثاء سيل، سراب فى سراب، كلام يعلو ثُم يتبخر فى الهواء. صخب يشتعل فجأة ويأفل فجأة، لمعان كاذب، وبريق خاطف لا يعكس ذهبا يلمع.

الإعلام مسئول، ورجاله موقوفون بين يدى التاريخ فى زمنٍ تالٍ ليسألهم فيما قالوا، وأذاعوا، وبثوا، وروجوا، وأثاروا، وأنتجوا. سيمرون مثل سابقيهم ممن صنعوا لا شىء فكانوا بالونات انتفخت ثم انقضت بلا نفع. استهدفوا التريند، فزيفوا وبدلوا وانزلقوا خلف الحشد مُستثمرين ميوعة القيم، ونشاط الجهل، وثقافة القطيع السائدة.

ليس جديدا أن يرقصوا، يطبلوا، يردحوا، يخرجوا عن سياقات الفهم، وينقضوا عُرى الوعي ويخوضوا فى الخرافات والحكايات المستفزة والأساليب اللاأخلاقية. تستفزنى سخافاتهم وأرتاح لتجاهلها، لكن انجرار العوام خلفها يوجع ضميرى فأجدنى متورطًا فى استقرائها، متحسرا على زمن مضى كُنا نعد فيه برامج من أمثلة مواقف وطرائف، وكلام من ذهب، واعترافات ليلية، برامج خفيفة.

الأمثلة صارخة وموجعة ومُثيرة للحنق، خاصة إن كانت بداياتها راشدة ومبشرة. فقبل أيام دفعنى قانون المصادفة( والذى أؤمن بالطبع أنه قانون قدرى بحت وراءه أسباب نجهلها) أن أشاهد برنامجًا للزميل عمرو الليثى يستضيف فيه حواة وسحرة يدّعون معرفة الغيب، والإتيان بالمعجزات، ليُبدى دهشة مصطنعة فى كيفية خرق قوانين الكون، بعبارات ساذجة من عينة «كيف ذلك ؟» و«ما السر؟»، «وغير معقول» لينحدر بالناس فى جوف آبار عميقة من الخرافة والجهل.

حُزنى فى ذلك أن عمرو الليثى الذى عملت يوما ما قبل نحو عقدين من الزمن معه فى أحد المشروعات الإعلامية كان عقلًا واعيًا، لديه مشروعه البحثى، واهتماماته المُبشرة بالتاريخ والفكر والإبداع.

لكن ما يُزعجنى أكثر أن تفعل مُذيعة أخرى هى ريهام سعيد كل ما هو مُزرٍ ومستفز لاستعادة جمهور هجرها استياء ومللا من أكاذيب وتلفيقات كريهة، فتلجأ إلى قتلة حيوانات سريين ليصطادوا لها ثعالب، وتطل على الناس وهى تُعذبها بلا معنى سوى صناعة المتعة. بالطبع لم تلتفت اللاهثة وراء «التريند» لقانون البيئة المصرى رقم 9 لسنة 2009، أو هى تجهله كما العادة، حيث تنص المادة الثامنة والعشرون منه على حظر صيد أو قتل أو الإتجار فى الحيوانات البرية.


قبلها عرفناها حاضنة خزعبلات وخرافات وقاصة لحكايات اخراج الجن من أجساد المصريين، وقراءة الطالع، وافتعال الخناقات الوهمية مع مدعى الإلحاد، وتأجير ممثلات مجهولات لتجسيد أدوار بنات ليل، وغيرها من الأساليب المثيرة للاشمئزاز والحنق.

خواء مزعج فى زمن صعب تتكالب فيه الصراعات وتزداد أهمية الإعلام كقوة ناعمة حيوية. يطل الرئيس السيسى مرارا مطالبا الإعلام بالمسئولية، يدعوه للتنوير والتوعية. يوصيه بمواجهة الإرهاب بالفكر، ومقاومة التعصب بالتحضر ورؤى التعايش والثقافة العابرة للقوميات. يريده جسرا لكشف أكاذيب التربص والفتن، سُلما لرُقى الناس وتحضرها، نافذة لتعلم القيم الرفيعة والأخلاق الطيبة، مُحرضًا على البناء والإصلاح والعمران.

لا يطالب الرئيس أحدا بالتصفيق. لكنه يدعوهم للتدقيق، لترسيخ الأخلاق. بالطبع يؤلمه كمصرى نشر الخزعبلات والخرافات والقيم الهدامة، ولأن بقعة الزيت تبدو لافتة فى الثوب الأبيض يشعر بالأسف لمستوى بعض الإعلاميين الكبار.

أقول لكم: اصنعوا خيرا وانشروه، تحروا الصدق، ابنوا وعى البشر، فأمة جاهلة غارقة فى التفاهات لا تتقدم قيد أنملة. والأنملة -إن كان إعلاميو الشو يعرفون- هى طرف الإصبع الصغير ودلالتها الثبات فى المكان.

والله أعلم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف