ناجح ابراهيم
قصص الكفاح فى مصر المحروسة
أقبلت العجوز على الطبيب تسير بصعوبة بصحبة فتاة صغيرة، وجد الطبيب أنها أهملت مرضها حتى تفاقمت حالتها، يكتب الطبيب الروشتة فأشارت إليه الفتاة طالبة ألا يكتب علاجاً غالياً، قال: أوليست والدتك؟ قالت: لا، قال إذاً هى حماتك، قالت: لست متزوجة وليست قريبتى ولكنها جارتى وتسكن وحدها، وأنا الذى دفعت لها أجر الكشف وسأشترى لها العلاج من عملى وليس من أسرتى.
تعجب الطبيب من شهامة الفتاة التى تفوق شهامة بعض الرجال الذين يتخلون عن زوجاتهم وأولادهم ويتركونهم جوعى يتسولون الناس، نظر إليها بإعجاب وفخر فهى لم تكتف بإحضارها ولكنها تريد تحمل كل نفقات علاجها، تأمل ملابس الفتاة فأدرك فقرها فهى من حى شعبى مغرق فى الشعبية، ويرزح أكثره تحت خط الفقر، ولكنها تصر على مساعدة من هم أكثر منها حاجة وفقراً.
عاد بذاكرته إلى عشرات النماذج من المرأة المصرية العظيمة، فهذه امرأة لم تنجب سوى شابين معوقين ذهنياً، صبرت عليهما وعلى مضايقات زوجها الذى يؤذيها ويعايرها أنها لم تنجب له إلا المعوقين، وكأن هذا الحصاد من زرعها وحدها، وليس شريكاً أساسياً فيه. تذكر الطبيب مئات الأرامل اللائى يحاربن أشرف الحروب لرعاية أولادهن فى معمعة الحياة التى لا يكاد يصمد لها أقوى الرجال اليوم.
قال لنفسه وهو يتأمل الفتاة: لن تكون هذه الفتاة أكثر عطاءً وكرماً منى: اطمئنى سيكون فحص الحاجة جارتك دوماً بالمجان، وسنساعدها فى العلاج بطريقة أو أخرى، نظرت إليه شاكرة، قال لها: أنت صاحبة المعروف الأكبر والخير الأعظم.
قال لنفسه بعد خروجها: هذه الفتاة الفقيرة أغنى نفساً من كثير من الأغنياء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، وهى أصلح الناس كزوجة وأم فى المستقبل، تمنى أن يجد لها بين معارفه زوجاً مناسباً، رداً لجميلها.
تذكر حالة مشابهة لامرأة معدومة حرقت حروقاً عميقة ولم يكن لها أقارب، فكانت امرأة شابة تحضرها دوماً وتتكفل مع جاراتها بالعلاج والدواء.
قال الطبيب لنفسه: ما زال فى هذا الشعب خير كثير، ولولا هذا الخير ما عاش فقير ولا يتيم ولا معدوم فى مصر.
هذه الأيام تشهد طفرة فى تقدير المجتمع المصرى لأهل الكفاح والعفاف، فالدنيا كلها تسجل إعجابها ببائع الليمون الصغير «أحمد» وتثنى على كفاحه وتشد من أزره وتقف إلى جواره، وترفع القبعة إكباراً لتعففه عن قبول الصدقة ورغبته فقط فى البيع والشراء، وتقدير المجتمع كله حكومةً وشعباً لسيدة المطر التى تبيع الترمس والمطر يهطل حولها والمياه تلامس قدميها وتكاد تبلل المكان الذى تجلس عليه ولكنها تواصل عملها ولا تبالى.
ومن قبلها الاحتفاء الرسمى والشعبى بسيدة القطار، بما فيها وزارتا الدفاع والنقل.
وكذلك التقدير المجتمعى الرسمى والشعبى لبائع الفريسكا إبراهيم عبدالناصر الذى أحرز تفوقاً نادراً فى الثانوية العامة وحصل على 99.6% ودخل طب الإسكندرية رغم ظروفه الأسرية والاجتماعية الصعبة. و«آية» التى كانت تبيع الأحذية الصينية الرخيصة فى الشارع مع والدتها الأرملة وحققت تفوقاً عظيماً رغم ذلك ودخلت كلية الطب، وكانت توازن بدقة بين مساعدتها لأمها فى العمل ومدرستها ومذاكرتها.
هذا الاحتفاء الرسمى والشعبى والإعلامى بقصص الكفاح والشرف والنخوة والعفة من أهم الظواهر الإيجابية فى المجتمع المصرى إذ إنها تدل على أن هذه القيم النبيلة وغيرها من قيم الكفاح والعطاء ما زالت تمثل الأهمية العليا لدى الشعب المصرى كله بمؤسساته وأفراده، وحتى لدى أغنيائه وأثريائه الذين يهرعون دوماً للوقوف إلى جوار هذه النماذج، وحتى من تلوثوا بالفساد أو المعصية يرون فى هذه النماذج أملاً لهم فى غد أفضل، وتوبة تعيدهم إلى الصواب، أو يجدون فيها أملاً أن يكون أولادهم أفضل منهم أو تقترب من هذه النماذج.
نماذج الصدق والرجولة والبذل والعطاء والكفاح والتعاون والعفة موجودة وبكثرة فى المجتمع المصرى، وكل من ينكر ذلك أو يرى أنه لا خير فى بلادنا أو شعبنا فهو ممن قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال هلك الناس فهو أهلكهم (أى أشرهم وأسوأهم). هذا الكفاح ليس جديداً على الشعب المصرى ولكن أدوات التواصل الاجتماعى أظهرته، وهذا من حسناتها وساعدت الإعلام والدولة على تكريمهم.
ولعلنا نذكر الآن مسلسل «لن أعيش فى جلباب أبى» الذى هز مصر كلها ولا يمل الإنسان من مشاهدته لمحبته لكفاح عبدالغفور البرعى، وهى قصة حقيقية جسدت قصة الحاج نادى السباعى الذى توفى هذا الأسبوع واحتفى الناس به ممثلاً فى شخص نور الشريف، وحقيقية حينما استضافه أ. محمود سعد فقد خرج للعمل وعمره خمس سنوات بعد وفاة والده وصنع وكالة كاملة خاصة به، واليوم يترحمون عليه.
قيم الكفاح ستظل هى الأعلى فى المجتمع مهما كثر الفساد والتفحش والمحسوبية والرشوة، سينتصر الحق والصواب والصدق والخير والعمل والكفاح؛ وذلك لعلة بسيطة أن الله هو الحق والعدل.