حسن ابو طالب
الغرب ونحن.. الرؤية بعين واحدة
رغم كثرة وحيوية وأهمية الموضوعات والقضايا التى تناولتها مباحثات الرئيس السيسى مع نظيره ماكرون فى باريس، وكبار المسئولين الفرنسيين، ورغم ارتفاع مستوى التوافق فى الرؤية الاستراتيجية بين البلدين تجاه الأزمات المتصاعدة فى شرق المتوسط ومكافحة التطرف والإرهاب والتمدد التركى المناقض لأبسط قواعد القانون الدولى، فقد ركزت وسائل الإعلام الفرنسية بما فيها الحكومية لا سيما المتلفزة بالعربية، ومعها وسائل إعلام بريطانية، على قضية واحدة وهى حقوق الإنسان، وكأنها المحور الوحيد الذى دارت حوله كل المناقشات الرسمية أو فى الكواليس، وجاءت الإشارات بشأن التوافق والتعاون فى مجالات مختلفة ثنائية وإقليمية محدودة، إن لم تكن غائبة فى غالبية التقارير المكتوبة أو المتلفزة.
واقع الأمر أن هذه المواقف الإعلامية ليست مستغربة، إذ هى تعبير عن سياسة محفورة فى الذهن الغربى تنظر إلى العرب إجمالاً وإلى مصر خاصة بعين واحدة يغشاها الكثير من الغيوم، ولا تتضح لديها رؤية ما يجرى فى بلادنا منذ سبع سنوات. تلك السياسة ذات العين الواحدة تركز فقط على ما يراه الغرب وكأنه العطية الكبرى إلى الإنسانية تحت عنوان حقوق الإنسان والحريات، مصحوبة بقناعة زائفة بأن الغرب قد وصل إلى الحد المثالى فى هذا الشأن، وأن الأفضل للكون كله أن يستنسخ نفسه على المنوال الغربى، وإن حدث وتمسك جزء من العالم بهويته وطبق مفاهيمه الخاصة بظروفه فى حقوق الإنسان والحريات بأبعادها الشاملة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وأمنياً، فيظل محلاً للنقد والرفض والتشويه المتعمد.
فى هذا السياق السياسى الحضارى جاء سؤال الصحفى الفرنسى للرئيس السيسى حول ما اعتبره ضغوطاً على المجتمع المدنى المصرى تحد من حريته وتقيد حركته. وفى إجابة الرئيس السيسى التى دمجت بين المعلومة حول حجم المنظمات المدنية المصرية التى تفوق 55 ألف منظمة تعمل فى جميع المجالات، وحجم المنظمات التى تشتكى من القيود وهو لا يُذكر، تبلورت إشارة قوية بأن السائل الفرنسى يجهل ما يجرى فى مصر وكل همه أن يثير اللغط على أمر يشكل له شخصياً شعوراً بالفخر الزائف لأنه انتقد بلداً بحجم مصر.
وحين ربط الرئيس السيسى بين هذا الواقع المصرى ومسئوليته كرئيس عليه حماية وأمن 100 مليون مصرى، مصحوباً بجدية الاجتهاد فى تنمية البلد وشعبه، ومستفسراً عما يجرى فى بلدان أخرى دمرتها تدخلات الغرب نفسه تحت عنوان حقوق الإنسان والحريات، ظهرت المسافة الكبرى بين الرؤية المصرية الذاتية للأولويات الوطنية فى سياقها التاريخى المعيش، وبين الرؤية الغربية المتمركزة حول الذات والبعيدة عن إدراك حقائق الأمور، والجاهلة للمعنى الشامل لحقوق الإنسان خاصة فى بلد نامٍ يتعرض للهجمات والتهديدات من دول وجماعات ومنظمات إرهابية عديدة.
المفارقة المشهودة فى الرؤية الغربية أنها تنظر إلى الغير ولا تنظر إلى الذات، فالكل يعلم أنه رغم مساحة الحرية فى القول والتعبير التى يتمسك بها الفرنسيون مثلاً باعتبارها قدس الأقداس، إلا أن هناك قيوداً قانونية على تلك الحرية المزعومة تحول دون مناقشة قضايا محددة سواء كانت تاريخية أو جارية، من قبيل القانون الصادر 1905 والذى يمنع انتقاد اليهودية والذى أضيف إليه قيد آخر فى العام الماضى يتعلق بعدم السماح بانتقاد الصهيونية رغم أنها حركة سياسية لها أخطاؤها الكبرى وليست ديناً.
وهو ما يكشف تناقضاً كبيراً فى السلوك العملى، إذ تستخدم حرية التعبير للصحفى أو الكاتب أو الرسام الفرنسى فى انتقاد المسلمين ودينهم ومقدساتهم، ولكنه لا يستطيع حتى أن يناقش أى فكرة بشأن الدين اليهودى أو الصهيونية أو إسرائيل وممارساتها العنصرية والاستعمارية.
وهو تناقض يعبر عن فساد مقولة أن حرية التعبير مقدسة فرنسياً بالمطلق، وأن الدولة لا تستطيع أن تحولَ دون قيام صحفى فرنسى بالإساءة إلى مقدسات الغير أو هوياتهم أو حضارتهم.
عدم نظرة الغرب إلى ذاته وتفحُّص ما فيها من عيوب يمتد أيضاً إلى حقوق الإنسان الأساسية، فهناك فقر وهناك أماكن يعيش فيها كثيرون لا تتوافر فيها أساسيات الحياة الآدمية، وهناك قسوة وعنف فى سلوك البوليس تجاه فئات معينة، وفى فرنسا ذاتها رأينا اعتداءات أربعة ضباط من البوليس على أشخاص عاديين غير مسلحين، وهو ما عبَّر عنه الرئيس ماكرون وقتها بالصدمة من هذا السلوك العنيف.
وفى السياق هناك الكثير من المواقف التى تكشف أن الادعاء بأن حقوق الإنسان فى الغرب هى الأفضل والأشمل ليس حقيقياً. وحتى فى حالة احتضان بعض الدول الأوروبية من يُعتبرون مجازاً معارضة سياسية لحكومات ونظم عربية، فالكل يعلم أن الأمر لا علاقة له بحقوق الإنسان أو نشر الديمقراطية، وإنما هى لعبة سياسية مكشوفة يتم فيها توظيف تلك المعارضة مجازاً للضغط على الغير، وحين يأتى أجلها تتخلى الحكومات الغربية عن تلك المعارضة المزعومة بكل سهولة، كما يتم طردها وتجريمها بكل سلاسة.
لا يريد بعض ساسة الغرب الاعتراف بأن الآخرين من حقهم أن يختاروا حياتهم بالطريقة التى يرونها الأفضل لهم والأكثر اتساقاً مع هوياتهم الحضارية والتاريخية والدينية.
وبالرغم من الأخطاء والكوارث التاريخية الكبرى نتيجة تدخل الغرب العنيف فى حياة شعوب عربية وغير عربية وبطريقة فجة لم تحترم حقوق الإنسان بأى درجة كانت، كما هو الحال فى العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا، فهو لا يريد أن يعترف بذنبه ويتجاهل مسئوليته.
هذه الخلافات بيننا وبين الغرب حول مفهوم حقوق الإنسان وتوظيف الإرهاب والحق فى الحياة وحرية الاختيار ليست نهاية المطاف، وسوف تستمر ولن يكون لها نهاية قريبة، ولا بد أن توضع فى حجمها الحقيقى كاختلاف فى المنظورات والمفاهيم وليست تجسيداً لعلاقة بين طرف أعلى وآخر أقل.
فالعلاقة مع الغرب ستظل لها أهميتها وضرورتها، ليس لنا فقط بل لهم أيضاً، لا سيما أن الترابط فى المصالح بدرجاتها وأشكالها المختلفة بات واقعاً لا يمكن التخلى عنه، ونحن فى مصر حريصون على تصحيح المفاهيم وتوسيع مساحات التفاهم والشراكة على أسس من الندية والاحترام المتبادل وعدم التدخل فى الشئون الداخلية لنا، وسنظل نطالب الغرب بأن يرى الأمور بمنظور أكثر موضوعية وشمولية، وبدون استعلاء أو استعداء أو تشويه لغرض التشويه، أو لغرض إثبات المكانة الأعلى والتفوق الحضارى المتوهم.
باختصار دعوتنا للغرب أن يتخلى عن سياسة العين الواحدة ويتفهم أكثر طموحاتنا وإنجازاتنا، وإن كانت لديه نصيحة فليقدمها بكل الاحترام، وأن يستمع أيضاً إلى نصائحنا له بكل تواضع.