بوابة الشروق
رجائى عطية
العقاد والإسلام
أدت شهرة عبقريات العقاد، ومحبة المصريين والعرب بعامة للسِّير والتراجم، إلى التفات الكثيرين عن الدرر الرائعة التى كتبها الأستاذ العقاد عن ديانة الإسلام، وألقى فيها النور على جوانب وفلسفة وأحكام ورؤية الإسلام فى كثير من الجوانب.
وما كتبه الأستاذ العقاد فى هذا المضمار روائع بحق، كانت ولا تزال محل تقدير وإكبار من العارفين الذين أعطوا هذه الدرر حقها من التقدير والالتفات والعناية.
وظنى أن «عبقريات» الأستاذ العقاد، قد ظلمت إسلامياته الأخرى، فقد شدت انتباه الكثيرين عن روائعه الإسلامية إلى امتدت إلى أهم جوانب الديانة الإسلامية التى لا تقل قيمتها إن لم تزد عما كتبه فى السّير وفى التراجم التى اشتهرت وسحبت شهرتها والإعجاب بها من الالتفات الواجب لباقى أعماله.
ولا شك أن عبقريات العقاد عن الشخصيات الإسلامية، فرع على كتاباته فى الإسلام، فهذه الصفة حاضرة فى كل العبقريات الإسلامية التى كتب عنها، حاضرة فى الخلفية العامة، وفى بناء الشخصية، وفى استقطار جوانب العظمة والعبقرية فيها، وجميعها مردودة إلى الأصول الإسلامية.
على أن ما أعنيه هنا هو الدراسات الإسلامية الموضوعية، وهى جديرة بأن تجلى وبأن تنال العناية والاهتمام، فقد فات قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام الواجب بها ــ بسبب ما حظيت به العبقريات والتراجم من ذيوع، فضلا عن عشق المصريين والعرب للتراجم وسير الأبطال والأفذاذ والأعلام. حتى لا تكاد تحدث أحدا عن الأستاذ العقاد، إلاَّ ويستحضر العبقريات فى إكبار وإعجاب، ولا يكاد يذكر إلى جوارها شيئًا من إنتاج الأستاذ العقاد الغزير بعامة، وفى الدراسات الإسلامية الموضوعية بخاصة.
وقد بلغ من شهرة العبقريات، أن جذبت أنظار كُتَّاب كبار على حساب إنتاج الأستاذ العقاد الضخم والضافى فى الدراسات والبحوث فى جوهر الإسلام، وصرف التفاتهم عن كتب إسلامية فذة لا يجوز لمثقف، ناهيك بمفكر أو شاعر أو كاتب كبير، أن تغيب عنه. ومن كبار كتابنا الذين انصرفوا بالعبقريات عن إسلاميات العقاد بل عن باقى روائعه، الشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور. ففى معرض هجومه على الأستاذ العقاد بكتابه: «ماذا يبقى منهم للتاريخ»، انتصافًا من هجومه على الشعر الحر فى المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، قال الأستاذ صلاح قبل أن يشن هجومه على العبقريات ذاتها ــ إنها «أثمن تراث فكرى جادت به موهبة العقاد»، ويكاد بذلك يختزل كتابات العقاد الإسلامية وغير الإسلامية فى هذه العبقريات، إلاَّ أننى لست معنيًّا هنا بعرض ما أورده الصديق صلاح عبدالصبور من نقد للعبقريات، أصاب فيه أم أخطأ، ولكن ما يعنينى هو أنه اعتبر العبقريات «أثمن ما جادت به موهبة العقاد»، وليس هذا صحيحًا، فقد جادت موهبة الأستاذ العقاد بروائع عديدة غير العبقريات، نذكر منها تمثيلا فى الإسلاميات بالذات ــ رائعته: «الله. بحث فى نشأة العقيدة الإلهية»، ورائعته: «التفكير فريضة إسلامية»، ورائعته: «مطلع النور»، ورائعته: «الإنسان فى القرآن الكريم»، ورائعته: «الفلسفة القرآنية»، ورائعته «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، إلى غير ذلك من روائع إسلامية كتبها وحلق فيها تحليقًا رفيعًا غير العبقريات التى كاد الأستاذ صلاح يختزل الأستاذ العقاد فيها.
وجدير بالذكر، حتى لا يُظن السوء بالشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، أنه برغم أن المقال الذى أشرت إليه كان ضمن جملة مقالات دافعها المعركة التى شبت مع العقاد عن الشعر الحر، والذى أحال الأستاذ العقاد قصائده إلى لجنة النثر، مما أغضب الأستاذ صلاح عبدالصبور والأستاذ عبدالمعطى حجازى، وكان وراء هذه المقالات، إلاَّ أنه فور وفاة الأستاذ العقاد فى 13 مارس 1964، نفض صلاح عبدالصبور عن نفسه وقلبه غبار المعركة، وكتب مقالا للأهرام قبل مضى أسبوع على رحيل العقاد، ونشر فى 20 مارس، كَتَب فى مطلعه يقول «انتهت الرحلة المجيدة إلى غايتها المرصودة، وعاشت نفحة من شمس أسوان ونورها لترقد حيث بدأت رحلتها بعد أن استوت فكرًا أنار البصائر وكشف الظلمات، وملأ الدنيا ومشى فى نوره الناس.. رحلة مجيدة استغرقت عشرات السنين لذلك الفتى العالى النفس، المتطلع إلى المعرفة، أفسح لنفسه بيديه، وبيديه وحدها أمضى حياته محاربًا صلبًا، هو فارس الكلمة، وخوّاض بحر المعرفة، وكم جابَه من الأخطار، وشق البحار المتلاطمة الموج، منتقلا من جزيرة إلى أخرى من جزر المعرفة، حتى أدنت به السفينة إلى شاطئ السكينة فوجد شمس أسوان تنتظره ليعود فيرقد فى أحضانها».
والواقع أن الأستاذ العقاد وكتاباته الإسلامية الموضوعية البحتة، تشف عن قوة عارضته، وعن إلمامه الواسع العريض، وإحاطته الشاملة، بالمبادئ والقيم والأحكام الإسلامية، وعن بصر نافذ وبصيرة شاملة، ورؤية متكاملة، وفهم عميق، وإحاطة بنظرية متكاملة ألمّت بها كتاباته المتنوعة التى تعرضت لجميع جوانب المنظور الإسلامى فى رؤية ثاقبة، واستنارة واضحة، فكانت محل تقدير من كبار المفكرين والعلماء المتخصصين، ونشرت وعيًا مستنيرًا لا تزال آثاره تتوهج وينهل منها كل قاصدى المعرفة والإحاطة الصحيحة بالإسلام.
وأعرف بحكم عضويتى فى مجمع البحوث الإسلامية لخمسة عشر عامًا، وإلحاقى ضمن ذوى الخبرة بهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومن واقع متابعتى وقراءاتى لمجلة الأزهر وأعدادها القديمة، أن الأستاذ العقاد حظى بتقدير كبير فى الأزهر الشريف، وفتحت له صفحات مجلة الأزهر من أول ستينيات القرن الماضى وحتى لاقى ربه فى مارس 1964، لنشر مقالاته الإسلامية على صفحاتها، فضلا عمّا ألقاه عن الإمام الغزالى فى قاعة المحاضرات، ونعرف مما قرأناه أنه كان محل تقدير كبير من فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، وقد رُوِىَ أن فضيلة الإمام الأكبر عاده فى مرض ألمّ به، فنهض الأستاذ العقاد من رقاده احترامًا لمقام الإمام، إلاَّ أن الشيخ شلتوت سارع إلى تقبيل يده تعبيرًا عن مودته وتقديره له، الأمر الذى أحرج الأستاذ العقاد حرجًا بالغًا وطفق يقول للإمام الأكبر «عفوًا يا مولانا أنت الأحق بذلك»، ولكن الشيخ أجابه فى تواضع وسماح أنه يقبل اليد التى أمسكت بالقلم ونافحت عن الإسلام.
قرأت قصة مرويّة عن فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقورى إبان أن كان مديرًا لجامعة الأزهر، وكان من كبار العلماء والدعاة، سئل عن الأستاذ العقاد وكتاباته فقال لسائليه: «الأستاذ العقاد مجاهد صادق بعيد النظر، غيور على الإسلام والمسلمين، غيرة عاملة وليست ثرثارة جامدة كأكثر أنواع الغيرة التى نشهدها فى دنيانا الآن، والأستاذ العقاد أزهرى بتخرجه على ثقافة الأزهر، وإن لم يكن أزهريّا بتخرجه فى الأزهر. فقد كان رحمه الله بهذه الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة إلى جانب ثقافته الغربية المتينة ــ خير لسان للعروبة والإسلام بما كتب من كتب ومقالات، وأذاع من أحاديث تدفع عن العربية أوهام المبطلين وعن الإسلام شبهات المغرضين. وقد صدر عن مدرسة الأستاذ العقاد فى كتبه ومجالسة فضلاء كثيرون سوف تبرزهم الأيام لتنتفع بهم أمتنا أحسن الانتفاع إن شاء الله... ».
ونحن نعرف أنه فضلا عن إكبار الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت وغيره من شيوخ الأزهر للأستاذ العقاد، تقديرًا له، على ما ناضل فيه عن الإسلام، وما كتبه فيه وعنه بأستاذية واستنارة، نعرف أن مجلة الأزهر عنيت بنشر العديد من مقالاته وبحوثه ودراساته، وفى اجتماع حضرتُه بالأزهر عام 2015 ضمن مجموعة مختارة من هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية من ناحية، ومن كبار المثقفين من ناحية أخرى، للنظر فى تجديد الخطاب الدينى، شهد الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، بأن الأستاذ عباس محمود العقاد من أكبر من قدموا خدمات جليلة للإسلام، إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف