محمد البرغوثى
"حرية المدمن" أهم من علاجه!!
أصبح فى حكم المؤكد أن ملايين الأسر فى مصر تعانى فى صمت موجع من كارثة وجود شخص مُدمن بين أفرادها، وإذا كانت الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية تشير إلى أن نسبة المدمنين تتراوح بين 7٪ و10٪، فالواقع يشير إلى أن النسبة قد تكون أكثر من ذلك بسبب صعوبة إحصاء المدمنين من الأساس، وقيام كل الإحصاءات على استطلاعات يتم إجراؤها بين فترة وأخرى، أو على بيانات وزارة الداخلية الخاصة بضبط المتعاطين والتجار، وكلها إحصاءات وبيانات لا تعبر عن الحقيقة كاملة، ولا تعكس إلا جزءاً بسيطاً من المعاناة الأليمة التى تعيشها الأسر التى ابتليت بهذا النوع من الخراب.
والمدهش فى قضية الإدمان أنها لا تخص طبقة دون غيرها من الطبقات، ولا فئة دون غيرها من الفئات، فالمشاهدات اليومية تشير إلى أن الإدمان ينتشر بين كل الطبقات من القمة إلى القاع، ويتحكم فى ملايين الشباب والشابات من الأسر الغنية والمتعلمة مثلما يتحكم فى ملايين غيرهم من الأسر الفقيرة والمعدمة والمحرومة من أى تعليم.
والحقيقة أن الدولة، ممثلة فى جهات رسمية عديدة، قد انتبهت إلى خطورة هذا «المرض اللعين» على الأمن القومى، فأنشأت صندوق علاج ومكافحة الإدمان مجاناً عام 1991 - وهو تابع لوزارة التضامن - كما حرصت وزارة الدفاع على إنشاء مراكز متخصصة على أعلى مستوى طبى ومهنى لعلاج المدمنين مجاناً، وأدت الأعداد المتزايدة للمدمنين إلى إسهام بعض منظمات المجتمع المدنى فى ملاحقة هذا الوباء الرهيب، وبذلت كل هذه الجهات، وما زالت تبذل، جهداً مشكوراً فى إتاحة العلاج وبرامج التعافى لعشرات الآلاف من المدمنين، الذين يذهبون طوعاً وباختيارهم ودون إجبار من أحد ويعترفون بإدمانهم ويخضعون لبرامج علاجية داخل المصحات تستغرق عادة وقتاً طويلاً قد يصل إلى عام كامل.
ولكن، ماذا عن المدمنين الذين يرفضون الخضوع للعلاج؟.. هل بإمكان صندوق علاج ومكافحة الإدمان التابع لوزارة التضامن أن يستجيب لاستغاثة أسرة تعانى من تخريب حياتها على يد ابن مدمن وتريد حجزه وإخضاعه للعلاج بالقوة؟
المدهش أن الصندوق وغيره من الجهات الرسمية والأهلية تشترط موافقة المدمن على الخضوع للعلاج، وهو أمر تشير كل الدلائل إلى أنه تقريباً من المستحيلات، فالمدمن لا يعترف بإدمانه إلا بعد فترة طويلة من تخريب حياته وتدمير نفسه وأسرته، ولا يطلب العلاج أبداً قبل أن يصل إلى «القاع» الذى تصفه برامج علاج المدمنين بأنه الهاوية التى لا هاوية بعدها، وفيها لا يجد المدمن أمامه منفذاً للحصول على أموال من أى شخص أو مساندة من أحد، كما يتخلى عنه رفقاء التعاطى لأنه لم يعد لديه ما يبيعه أو يسرقه.. ولم تعد هناك جريمة إلا وارتكبها من أجل الحصول على جرعة مخدر تنهى عذاباته الرهيبة.
والغالبية العظمى من المدمنين الذين يطلبون العلاج بأنفسهم أو يخضعون لرغبة الأهل فى علاجهم، يتعرضون لأهوال وفظاعات تحتاج إلى علاج نفسى إضافى لتخليصهم من آثار التجارب التى مروا بها، وكثيرون منهم ينتكسون ويعودون إلى التعاطى - وبشكل أكثر تدميراً - لمجرد نسيان ما فعلوه قبل أن يصلوا إلى «القاع». أحد هؤلاء المرضى يروى تجربته المخيفة - تحت اسم مستعار طبعاً - فى الكتيب الإرشادى الذى أصدرته «دار الحرية للعلاج من الإدمان والإيدز» التابعة للكنيسة الإنجيلية، والتى يشرف عليها الدكتور إيهاب الخراط نجل الأديب المصرى المرموق إدوار الخراط.. يقول المريض المتعافى: لا توجد جريمة لم أرتكبها.. سرقت كل ذهب أمى وشقيقاتى.. وبعد طردى من البيت انضممت إلى عصابة لخطف الحقائب من السيدات والفتيات فى الشوارع.. سرقت بيوت كل أقاربى وأصدقائى.. بعت شرفى لشاذ جنسياً لأحصل على جرعة.. هجمت على صيدليات ليلية وأخذت ما فيها من أموال تحت تهديد السلاح.. سرقت علاج أخى المريض بالسرطان وبعته لصيدلية بربع الثمن لأحصل على ثمن جرعة، وكان أخى المريض هو آخر إنسان يمكن أن أسرقه لأن المرض أفقده كل تركيزه.. وفجأة مات أخى، وبموته فقدت آخر مصدر لتمويل جرعات المخدر.. وبعد شهرين من العذاب والإهانة توسلت إلى أحد معارفى طلباً للعلاج.
إن مأساة هذا المتعافى الذى لم يطلب العلاج إلا وهو فى القاع، هى ذاتها مأساة الملايين من مرضى الإدمان.. فهم لا يطلبون العلاج ولا يوافقون عليه إلا بعد تخريب حياتهم وحياة أسرهم تخريباً لا يمكن إصلاحه.. فالمدمن بارع فى إخفاء إدمانه، ويتم تدريبه فى أوكار التعاطى وعلى يد أقرانه الفاسدين، على أساليب شديدة الخسة لتدبير نفقات التعاطى.. وهو ينتقل من مخدر إلى آخر أشد وطأة وأغلى ثمناً كلما أوغل فى المرض.. وانتظار وصول المتعاطى إلى القاع حتى يستغيث طلباً للعلاج، أشبه بانتظار حريق صغير حتى يلتهم البيت كله، قبل أن نتدخل لإطفائه.
والمحصلة أن الآلام الرهيبة التى تتعرض لها ملايين الأسر، بسبب رفض كل الجهات إرغام المدمنين على الحجز والعلاج، دفعت غالبية الأسر إلى طرد أبنائها المدمنين إلى الشارع، فتحولوا إلى قطعان سائبة على استعداد دائم لارتكاب أبشع الجرائم مقابل جرعة تطفئ غليان دمائهم الملوثة.. بعض هؤلاء المدمنين يتحولون إلى موزعين، وبعضهم يبيع جسده للشواذ فيتحول إلى مستنقع لنشر الإيدز، ولا بد أن كثيرين منهم على استعداد للعمل جاسوساً أو إرهابياً ينشر الفوضى والخراب من أجل جرعة تمنعه من الوصول إلى «القاع» وتجعله فى غنى دائم عن طلب العلاج.
هل هناك من يرفض تعديل بروتوكولات علاج المدمنين وإخضاعهم رغم أنوفهم للعلاج قبل الوصول إلى القاع؟.. نعم هناك من يرفض.. وهناك من يتاجر بحق المدمن فى رفض العلاج ويتكسب الملايين من هذا الحق الذى يراد به باطل.. وتلك قصة أخرى.