رجائى عطية
الفطنة الآدمية أحوال وأطوار (3)
فى أيامنا تزيد وتتزايد فطانة الآدمى عن أمثاله من الماضين بمراحل كثيرة فى الأعمال والأشياء.. وهو يبحث ويكشف ويستنتج ويصنع ويغير ويبدل أضعاف أضعاف ما كان يقوى عليه سالفوه، لكنه فقد الإيمان القوى، ففقد الأمانة والاستقامة، وتشتّتت بذلك حياته بغير اعتدال ودون نظام يربطها ويضبط اندفاعاتها.. أخشى أن نكون قد فقدنا بلا رجعة القدرة على العودة العامة إلى النظام والانضباط والاعتدال، وأن نكون قد انحدرنا إلى نهايات ليس لها علاج.. اللهم إلاّ أن نتجه بإصرار وعناد إلى ما فى الفضاء الواسع من المنافع والإمداد بما لا آخر له.. لنستعين به على الحياة بما لم تعد الأرض قادرة على كفايتنا به!
و«أنا» الآدمى معه دائماً.. تحيا مع صاحبها راضياً أو فرحاً، سعيداً أو ضائقاً.. غاضباً أو ساخطاً أو حاقداً!.. لا يستطيع أن يذكر على أى وجه أنه هو لم يكن موجوداً قط قبل لحظة ميلاده، ولا أنه هو سيكون غائباً عديم الوجود كلية لحظة زواله.. فهذه معالم كل آدمى ابتداء وانتهاء فى الزمان والمكان.. وهذا حاصل لكل حىّ آخر حيواناً كان أو نباتاً.. لأن الحياة فيما يبدو للبشر أساسها الأول والأخير دوام توالى الإيجاد ثم العدم حتماً.. فهما لا ينفصلان قط، وبينهما دائماً قسمة ما.. قد تضيق وقد تتسع وقتياً فى نظرنا نحن.. والآدمى يرفض التماثل لأنه غير حقيقى، ولا تبيح «الأنا» إلا الترحيب بالتشابه إن وجد وأقره الطرفان، فنحن دائماً فى كل وقت ومكان، أفراد وأخلاط لا نتماثل ولا نتطابق.. لكننا نتشابه ونتناقض ونتآخى ونتعادى ونحيا ونموت.. فمن هذه الأخلاط والتجمعات الحية المؤقتة فى الزمان والمكان، عرفنا بقدر محدود من المعرفة أن من وجودنا الذى لا ندرى أوله نمارس بشريتنا.. وهى دائمة التحول والتغير بالنسبة إلينا فى عالم تتوالى أجياله.. تجىء وتذهب ويخلفها ما يشبهها إلى ما لا يعرفه إلا الخالق عز وجل.
وأفكار «الأنا» لدى كل آدمى صغيراً أو كبيراً فى كل زمان ومكان.. ليست أكثر من محصلة انتقاءات جادت بها وتجود حواسنا وستجود مما تستطيع أن تنقله من محيطها واتصالها المباشر وغير المباشر بالآخرين.. تتلقاها الذاكرة وتحفظها لوقت يقصر أو يطول.. كى تستخدمها الأنا فى قبولها ورضائها أو رفضها وسخطها.. فمواضع القبول والرفض والرضا والسخط عادة ليس لها أول ولا آخر لأى حىّ.. بها تتحقق القرابات والأنساب والمحبات والصداقات، وتستمر وتتواصل المعاملات، أو تتوجس وتستريب النفوس وتبرز الأحقاد والضغائن والعداوات.. و«أنا» كل منا أكثر عمقاً مما نظن، وأقل فى ملكيتنا لها مما نتصور.. لأنها غريزية يستحيل على صاحبها أن يتخلص من الشعور بها فى أية مرحلة من عمره.. فتمسّكه بـ«الأنا» لا ينقطع.. حتى إن غير اسمه أو بلده أو صورته.. فتماسك الآدمى فيما يبدو أشد احتياجاً لـ«الأنا» لاتساع عالمه الخارجى على الدوام فى توالى الأجيال الباقية فى أمده والأمد المكتوب للجنس البشرى.. المبنى مع وجود «الأنا» على ما توالت عليه حياة كل فرد ونهايتها فى هذا العالم فى الزمن المقدر له فى البقاء حياً.. وقد أدى هذا إلى تشابه وتناقض الأنا فى كل آدمى إبان مجيئه واختفائه الذى يتوالى بين الإيجاد والإخفاء الوارد على الجميع!
انتشار «الأنا» فى كل لفتة من حياة الآدمى غائر وهائل جداً. وهذا الالتفات يميز فى كل لحظة الآخر والغريب والمفقود، كما يميز المرغوب والمأمول!
وما يوجد حتى الآن على هذه الأرض من الآدميين، وما مات وزال واندثر واختفى فصله وأصله راجع فى بدايته ونهايته إلى الأنا ظهوراً واختفاءً فى نظر الباقين الزائلين هم أيضاً فى حينهم.. و«أنا» كل آدمى حىّ لا تفارقه قط.. يقظاً أو نائماً.. وما وصفه ويصفه البشر من تغير الأزمنة والأجيال والأمكنة والعادات والأفكار، هو فى مبناه كامن فعال فى صفحة «الأنا»!
وليس عجيباً أن يفطن البعض منا بين وقت وآخر إلى نفوذ «الأنا» ومسعاها وقدرتها على استخدام العقول وتكوين العقائد وتشييد البلدان وإقامة الحكومات وتنظيم وتطويع الشعوب وتوزيع وتطوير الزراعات والصناعات والعلوم والفنون والآداب والالتفات إلى الحروب ومتطلباتها بحسب أحجامها وأوقاتها وأدواتها ومهاراتها فى البر والبحر والجو.. وهذه جميعاً تجمعات جمعها إما اقتناع «أنا» كل فرد، وإما خضوع «الأنا» لما لم تقدر على رفضه فى حدوده!
ولغات الآدميين سابقها ولاحقها وقديمها وحاضرها تسجل أسبقية وأولوية «الأنا» وتقدمها على المخاطب والغائب بل على كل ما عداها.. هذه «الأنا» هى أول الأوائل على كل أول آخر من أوائل ما يحسه كل آدمى.. لا يسبقها سابق قط.. فتجاهلها مُحال المحال، لكن الالتفات إلى تحديد سطوتها وسلطتها فى استخدام العقل واستبعاده، يجب أن يقاومه ويضبطه العقلاء.. وهم الآن قلة نادرة.. فقد صار البشر اليوم كثرة كاثرة فى كل مكان.. لم يسبق لها مثيل.. وغطت عبادة الثروة والمال كل مشاعر هذه الكثرة.. سواء كانت الثروة موجودة أو مأمولة أو متمناة.. مع أن الثروة والمال لا يطردان النهاية التى لا بد ولا مفر منها!
وبغير «الأنا» لدى كل آدمى فى كل وقت، لم توجد آدمية الحياة التى نعرفها نحن ومن سبقونا.. إذ لم تكن توجد أنوثة أو ذكورة أو قرابة أو مصاهرة أو اغتراب أو صغر أو كبر أو ضعف أو قوة أو جهالة أو معرفة أو باطل أو حق أو حماقة أو رشد أو عصيان أو طاعة أو كذب أو صدق أو حنث أو مكر أو استقامة أو طمع أو قناعة أو قسوة أو رحمة.. لولاها ما كان قد جرى احترام الميت أو الترحيب بالمولود بقدر مستطاع المحيطين بهذا أو بذاك. وهذه «الأنا»: أناى وأناك.. يمكن أن تتآخيا وتترافقا ويطول تآخيهما وترافقهما مع تتابع السنين والأعمار!
وأناى وأناك يمكن أن تتوافقا وأن يطول ويعمر توافقهما مصحوباً بالرضا والاعتدال.. وقد يبلغ ذلك ما يجاوز الأخوة وإن كان هذا غير كثير على الدوام!.. إذ يغلب على البشر فيما نعيه عن الماضى والحاضر والمستقبل الدانى تغليب الأنانية التى هى تضخيم «الأنا» والحرص على تفخيمها.. خاصة بالمال والسطوة والسيطرة، وبكل ما يستطاع من درجات ومن مراكز ورئاسات ومقامات.. هذا برغم أن هذه التضخيمات مهما كبرت وتحققت أمام الناس، تبتلعها المقابر حيث مكانها بعيد فى الأغلب الأعم عن مساكن الأحياء ومواضع أعمالهم وأشغالهم وعباداتهم!
وما زلنا إلى اليوم نختلف فيما يسمى بطبقات ودرجات البشرية فى الجماعات اختلافاً واضحاً.. بلغ الآن شدته وتزاحمه وتداخله وفروقه وتباينه.. وكلها فروق وتباينات تدور حول «الأنا» التى تنفصل تماماً عن غيرها بين تلك الطبقات والدرجات.. ففى القمة يسود التميز والتنعم والقيادة والسيادة، وفى الأوساط التى مالت إلى الضعف والاضطراب حيث المساواة والجهد والعمل وقدر من الأمان والرضا وأحياناً القناعة، وفى القاع زاد ويزداد الشعور بالفقر والحاجة والخوف والغل مع انعدام المبالاة بأى شىء!
والبشر عادة من قديمهم وحديثهم.. يجذبهم ويغريهم الجمع والكثرة.. والمزيد المتجدد من الشعور بالقدرة والسيطرة على الغير.. والميل إلى الزهو والفخر والكبر بما تصوروا أنهم حصّلوه وفازوا به واغتنوا وانتفخت به «الأنا» التى أنساها ذلك حتمية زوالها الذى لا مفر منه لأى حىّ!.. إذ «الأنا» على غير ما يتصوره أغلبنا دائمة الحركة نحو الغد من الجنين إلى لحظة الاختفاء!
فالأنا البشرية حالية وماضية، لا تعرف فعلاً إلاّ الحياة التى أمكن ويمكن أن تحملها بقدر ما يستطيع الحىّ ما دام حياً.. ولا تعرف الموت لأنها تنتهى بشرياً مع قدومه فى دنيانا!
فما استطاع آدمى كائناً من كان، أن يطرد أناه بعيداً عنه قط، ولا أن يتجاهلها ويهملها بإطلاق.. لأنه يستعبدها ويذلها دائماً وفى كل وقت! ويستحيل عليه أن يستغنى عن ذاته كلية فى كل زمان ومكان.. إذ الأنا بالنسبة للبشر هى النفس والشخصية والذات المنفردة التى لا مثيل ولا مطابق لها فى الآدميين قرباء أو غرباء.. فالبشر لا يعرفون المطابقة ولن يعرفوها مهما تشابه أو تقارب البشر.. فإن زالت الأنا كلية، زالت البشرية قاطبة فى كل زمان؛ ماضٍ وحاضر ومستقبل!