الوطن
عاطف السعداوي
موقع مصر على خريطة القوى الناعمة (1)
عاد النقاش بقوة فى السنوات القليلة الماضية حول قوة مصر الناعمة، وانصب هذا النقاش بالأساس حول ثلاثة أسئلة رئيسية، أولها: هل تراجعت القوة الناعمة لمصر؟ وباعتبار أن الإجابة عن هذا السؤال كانت محسومة سلفاً دون بحث أو عناء أو اجتهاد، بالنظر إلى حالة التراجع التى لا تُخطئها عين فى منتجنا الثقافى والأدبى والفنى كماً وكيفاً، لذا كان السؤال الثانى: لماذا؟ لماذا تراجعت قوة مصر الناعمة؟، ولماذا فقدت هذه القوة جاذبيتها؟ ولماذا توقفنا عن توليد وإنتاج قوى ناعمة جديدة؟ وبالطبع كان السؤال الثالث: كيف تستعيد مصر تأثيرها مرة أخرى خارج حدودها، من خلال قوتها الناعمة؟

هذه الأسئلة الثلاثة كانت محل سجالات فكرية ونقاشات أكاديمية كثيرة خلال العامين الماضيين، ونظمت من أجل الإجابة عنها الكثير من الفعاليات الثقافية، وكتب الكثير من المقالات، معظمها بالغ فى التهوين والاستعلاء، وبعضها بالغ فى التهويل وجلد الذات، وقليل منها عالج الأمر بموضوعية، وإن كانت جميعها انطلقت من دافع الحرص على استعادة مصر بريقها ودورها فى محيطها العربى والأفريقى، بتوظيف ما تملكه من موروث حضارى وثقافى كبير.

فى محاولة للاشتباك مع هذا الجدل الفكرى، والإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة، يمكن القول ابتداءً إن إشكالية التعاطى مع مفهوم القوة الناعمة فى الساحة الفكرية المصرية تمثلت فى اجتزاء هذا المفهوم واختزال عناصره فى الجانب الثقافى المتمثل فى الفنون والآداب وصناعة السينما والإنتاج الدرامى، وبالتالى رهن من تصدى للأمر تقدم مصر أو تراجعها على مؤشر القوى الناعمة بمدى تقدم أو تراجع الإنتاج الفنى والسينمائى والأدبى والدرامى.

على سبيل المثال، هناك من يرى أن معاودة استخدام فنون مصرية، عمر بعضها تجاوز نصف القرن، يكفى دليلاً على تدهور «ترسانة القوى الناعمة المصرية»، ودافعاً مهماً للاعتراف بأن هذه القوة «فقدت جاذبيتها، وأننا توقفنا عن توليد قوى ناعمة جديدة».. مثل هذه الآراء وهى كثيرة تتجاهل أمرين مرتبطين.. أولهما ما طرأ على العالم من تغيير، نتيجة ثورة التكنولوجيا ودخول وسائل اتصال جديدة، وما أحدثه ذلك من انفتاح الشعوب العربية على ثقافات الآخرين وفنونهم، وبعضها مختلف كلياً عما كان سائداً فى الخمسينات والستينات، وهو ما أدى بدوره إلى تبدّل مزاج شعوب المنطقة ومدى تقبّلها وتأثرها بما كانت تصدره مصر من منتج فنى وثقافى، وكان مصدراً لتأثيرها ووجودها، وبالتالى تراجعت جاذبية النموذج المصرى أمام المواطن العربى، فى ظل ما أتاحته وسائل التواصل الحديثة من نشر نماذج منافسة أصبحت تملك هى الأخرى مقومات للقوة الناعمة، خاصة أن ذلك تواكب مع انشغال مصر بقضاياها الداخلية من عام 2011 إلى عام 2014، وتراجع مستوى الاهتمام بالخارج. الأمر الثانى مرتبط بالتغيّرات التى طرأت على مفهوم القوة الناعمة نفسه.

فرغم أن المصطلح حديث النشأة نسبياً، حيث كان الأكاديمى والعسكرى الأمريكى السابق، «جوزيف س. ناى»، أول من استخدم مصطلح «القوة الناعمة» عندما صاغ لبنات هذا المصطلح فى كتابه «وثبة نحو القيادة» (Bound to Lead)، الذى أصدره فى عام 1992، ثم أعاد استخدامه فى كتابه «مفارقة القوة الأمريكية» (The Paradox of American Power) الصادر عام 2002، حيث وضعه كعنوان فرعى صغير شمل عدداً محدوداً من الصفحات، ثم توسّع «ناى» فى ما بعد فى المفهوم؛ فوضع كتاباً كاملاً عام 2004 بعنوان «القوة الناعمة: وسيلة النجاح فى السياسة الدولية»، بهدف تسليط الضوء على قدرة بعض الدول على استثمار عناصر الجذب الحضارية والثقافية، دون الاضطرار إلى اللجوء للإكراه، بهدف الإقناع ونشر الدعاية والفكر الوطنى، عبر الآداب والثقافة والفنون والقيم السياسية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف