الوطن
عبد الفتاح على
بحر القهر وأمطار الغدر
الارتباك قد لا يكون سيد الموقف، لكنه عنوان المرحلة التى يمر بها إنسان تكالبت الطعنات على ظهره، ليس فقط من مجهولين قرروا أن ينفّسوا عن كبت بداخلهم فى إيذاء من تطوله أيديهم، لكنها طعنات من كنت تظن أنهم مُثُل عليا وغاية تؤمن بها وقيمة تنتظر سطوعها كل صباح.

أما المرضى الذين لا علاج لهم، ولا دواء يخفف عن الناس أذيتهم وبطشهم، فهم الذين تشتعل بهم جهنم فى يوم الحساب، الذين ظنوا أنهم القبيلة المختارة، ولا راد لكلمتهم، فيمعن كل فرد فى تلك القبيلة فى الظلم دون اكتراث.. وسط غابة البطش وبحر القهر وأمطار الغدر، يمدك الله بثلة من ملائكة البشر، تنفث فى آذانهم غضبك، وتستعين بكلمات ألسنتهم مدداً، وتتعكز على أدعيتهم ما تبقى لك من زمن على طريق الشوك والقهر والمهانة ودهس الكرامة.

تلك الثلة الذين أسكن قلوبهم وأشغل عقولهم وأدنو إلى أرواحهم، أعادتنى مراراً، من طريق ذهاب بلا عودة، وسفر باتجاه واحد، ورحلة مقدر متاعها القليل، أمسكت مرة بتلابيب قميصى على شفا جبل، ومرة بطرف أصبعى فى قلب دوامة.

لكن يبقى فى القلب غصة، وفى العقل غصات، دارت الدنيا فى لحظات فى قلب صندوق الأمواج فوق الصوتية، حيث الضوضاء غير القابلة للتوقف، تتجمع صوراً غير قابلة للزوال، مثل ذلك الصغير اللاهى يركض نحو والده القادم من سفر بعيد.

وذلك الشاب اللاهى وسط كومة من أوراق، بعد انتصاف الليل يراجع نصوصاً وعناوين، وذلك الرجل اللاهى فى شوارع سان ميشيل يتكئ على قرينه وقد انساب هواء باريس البارد من بين ضلوعه قبل أن ينزلق من رئتيه، ثم ذلك الكئيب اللاهى فى صندوق.

يتملكنى شعور غريب أن الضيق سيطول، وأن الظلم سيبقى لفترة، وأن العمر قد لا يسعفه استراحة عابر سبيل، وحتى تأتى تلك الاستراحة، لن أحلم بعودة اللهو الجميل، ولا حتى ذلك الزمن الذى رفعت فيه راية الرضا بالمتاح الحلال.

يتملكنى شعور أغرب أنى لا أرغب فى نظرة تشفٍ فى أحد، ولا أفكر فى لحظة انتقام قد تسعد البعض، لكنها لا تشفى غليلاً ولا تعوض لحظات من عمر ذهبت فى حسرة وغضب، ولا أتخيل نفسى قادراً على تخيل فعل «انتقم».

أتذكر ذلك الشعور الرهيب بالإهانة، من شخص لم يكن بينى وبينه لحظة تلاقٍ، لا فى الواقع ولا فى الخيال، لكنه فعلها بتلقائية كأنه اعتاد عليها بالسليقة، مرت الأيام ثم دارت دورتها العجيبة، وجاء نفس الشخص ووقف نفس الوقفة، وقبل أن أتذكر فعلته بى، وجدتنى أحسن معاملته بتلقائية لم أنتبه لها وقتها.

لا أريد أن أكون هذا الشخص الذى يرتع فى شقة بعاصمة الضباب، ويتنقل كل فترة بين عواصم أوروبية، وأحياناً يزور عاصمة السباب، أو يستقر أياماً فى عاصمة الإسفاف، لا أريد أن أكون مثله محروماً من نعمة النظر لنيل القاهرة الخالد، أو أن آنس بليلها الساهر.

انتهت دقائق الصندوق، كأنها أيام، فليس كل ما رأيته يذكر، ففى الحياة أمور، تتمنى عدم تكرارها لأنك فى كل مرة ستفعل ما فعلته، وتخسر ما خسرته، لأن الرهان ليس على مال أجنيه أو منصب أتطلع إليه، بل لثلة أصدقاء كهؤلاء الذى حبانى الله بهم وكفى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف