الوطن
محمود البرغوثى
زرعنا وأفلحنا.. فما أسباب خسارتنا؟
لا أحد فى مصر والعالم يختلف على أن الزراعة عصب الحياة، كونها إحدى وسيلتين لتخليق احتياجات الإنسان من الغذاء والكساء والدواء، والثانية تتمثل فى التعدين الذى يغذّى الصناعة، والثابت أن الزراعة والتعدين أصبحا مرتبطين ارتباطاً وثيقاً، كون الثانى يوفر الخامات اللازمة للأول.

مبعث هذه المقدمة هو تلك النتائج المخيبة لآمال الزراعة والزراعيين والمزارعين ومربى الدواجن والماشية والأسماك، حيث الخسائر الفادحة التى حرقت نسبة حاكمة من حجم الاستثمار فى هذا القطاع، مع النكبات المتلاحقة، عروة تلو الثانية، ودورة تلو الأخرى، دون أن تتحرك الحكومة من سباتها، لتحرى الأسباب الحقيقية وراء تراجع أسعار جميع الحاصلات للفلاح، واستمرار الغلاء للمستهلك. ولأن مصر تملك ما لا يقل عن 11.5 مليون فدان منزرعة بالفعل، منها نحو 8.5 مليون فدان قديمة، ونحو ثلاثة ملايين فدان مستصلحة، فيصبح من غير المعقول أن تهمل دولة زراعية بحجم مصر استثمارات لا يقل حجمها الفعلى عن 11.5 تريليون جنيه فى المتوسط، كأطيان زراعية، بصرف النظر عن الاستثمارات الرأسية المقامة عليها. وبحساب استثمارات الأنشطة المتفرّعة من الزراعة، أو القائمة عليها، مثل: صناعة الإنتاج الداجنى، وتربية الماشية، والإنتاج السمكى، إضافة إلى مصانع الأغذية والعصائر، والأسمدة والمبيدات، والأدوية البيطرية، يظهر حجم الزراعة كرقم مالى فى ميزان الاقتصاد المصرى، لا يمكن تقديره بأقل من 20 تريليون جنيه.

هذا الرقم المتواضع، وغير المحسوب بدقة، ربما يردع دعاة تصفية الزراعة والأنشطة القائمة عليها، من باب أن شراء الغذاء جاهزاً أقل تكلفة من إنتاجه وتصنيعه، وليعيدوا النظر فى حجم التركة المصرية من الأرض والمياه، وهى غير قابلة للبيع، أو التحويل إلى مشاريع سياحية أو ترفيهية، كما أن التركيبة السكانية للمجتمع المصرى، منذ بدء الخليقة حتى اليوم، تمازجت بقروييها وحضرييها فى ثوب فلاحى واضح، حتى لو كان الفلاح قد استسلم أخيراً للوقوف فى طابور الرغيف المخبوز خارج البيت، أو شراء ساندويتشات البرجر، وأكياس البطاطس نصف المجهّزة، والشرائح المقلية. مرارة الواقع الإنتاجى فى مصر تفرض طرح القضية فى عدد من الأسئلة على طاولات الأجهزة الحكومية، المعنية برفاهية المواطن أمام رئيس الدولة:

ماذا يعنى أن يتكلف إنتاج كيلو البطاطس فى الأرض نحو 2.5 جنيه، ويباع ساعة حصاده بأقل من جنيه، لتلحقه خضراوات أخرى، مثل: البسلة، والكوسة، والطماطم، وغيرها؟ ماذا يعنى أن يعمل نحو 13 ألف باحث فى مركز البحوث الزراعية ومركز بحوث الصحراء، ومثلهم فى كليات الزراعة والطب البيطرى والمركز القومى للبحوث، يتقاضون رواتبهم من ميزانية الدولة، ويتركز عملهم جميعاً فى هدف واحد، هو رفع إنتاجية وحدة الأرض والمياه، فتصبح مصر فعلاً الأعلى عالمياً، ثم لا نجد لهذا الحصاد ثمناً يحقق البهجة للباحث والزارع، ويجسّد الأمل المنشود للحاكم؟

ماذا يعنى أن يكون إيجار فدان الأرض الزراعية 15 ألف جنيه، وإنتاجيته أقل من نصف هذا المبلغ، خلال ثلاثة أعوام متتالية، دون حساب التكاليف الرأسمالية، التى تم إهدارها على العمليات الزراعية، لتستمر خسارة الفدان سنوياً ما بين 10 و25 ألف جنيه؟ إذا خسرت زراعة الحاصلات (حبوب، وخضار، وفاكهة)، وتدهورت حالة الماشية والأغنام والأسماك والدواجن، فبارت الأرض، وخربت العنابر والحظائر، فمن أين يعيش الفلاح والمربى، ومن أين له من دخل يستعين به على سداد نفقات الخدمات الحياتية الأخرى، مثل: الماء، والكهرباء، والتعليم، والدواء؟ إذا كانت وزارة الزراعة قد نجحت فى تحقيق المستهدف من حيث الإنتاجية، فزاد المعروض على المطلوب فى السوق المحلية، فأين دور الوزارات الأخرى، مثل: التموين، والتجارة الخارجية، والخارجية، للقيام بدور فاعل فى منظومة التسويق محلياً ودولياً وعالمياً؟ إذا كانت أرفف المعاهد العلمية والكليات وأدراجها مكتظة بدراسات جدوى التحول إلى التصنيع الزراعى، لاستثمار الفائض، لتخزينه أو تعبئته أو تغليفه، سواء لتنظيم استهلاكه على مدار العام، أو تصديره خارجياً، فما المانع من التوسّع فى إنشاء هذه الصناعات التحويلية فى مناطق إنتاج الخضراوات والفواكه؟ إذا كان رئيس الدولة لا يهمل فى حديث أو اجتماع حكومى، توجيه الحكومة إلى ضرورة الاهتمام بالإنتاج والتصنيع لتضييق الفجوة الاستيرادية فى مجالات الغذاء والكساء والدواء، فما المانع أمام تحقيق هذه الآمال؟

إذا كان الرئيس يجتهد فى تنفيذ هدف زراعة الـ1.5 مليون فدان، لزيادة الرقعة الزراعية وفتح آفاق العمل أمام شباب هذه الأمة، وإذا كان قد نجح فى تنفيذ شبكات الطرق الداعمة لخطط التنمية، ويضع فى أجندته خطة زمنية لتطوير جميع القرى المصرية، فما الذى يمنع أجهزة الحكومة من استثمار هذه العزيمة، بالعمل الجاد لحقن خسائر المنتجين للغذاء فى مصر؟

نهاية: النتائج المحقّقة على أرض الواقع، تترجم الإيمان بفكر دعاة تصفية الزراعة وأنشطة إنتاج الغذاء (نباتى وداجنى وحيوانى وسمكى)، دون حساب حجم هذا القطاع فى ميزان مصر، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، ودون التعاطى مع الفكر التنموى الذى يترجمه يومياً رئيس الجمهورية، فى افتتاح مشروعات جديدة مبهرة تشع خضاراً وبهجة. طرح الأسئلة السابقة، فى حد ذاته، عمل من أعمال الضمير فى ترجمة ما يدور فى عقل قطاع ليس هيناً من أبناء الشعب المصرى، القطاع الذى يضم المنتجين للغذاء، الذين يجب أن يكونوا الأولى بالرعاية فى بلد يعيش صراعات تاريخية للدفاع عن الأرض والمياه، ولا يخفى على مصرى، مواطناً أو مسئولاً، أن المنتجين هم الفئة الأكثر تجسيداً وترسيخاً لشعار «تحيا مصر».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف