حسن ابو طالب
25 يناير.. تشابك الأحداث والرمزيات
منذ عقد كامل وهناك جدل حول رمزية يوم الخامس والعشرين من يناير بالنسبة لتاريخ مصر. ويمكن تلخيص هذا الجدل فى تياريْن كبيريْن؛ أولهما يرى أنه يوم ثورة شعب على نظام أفقده الأمل فى المستقبل، والبعض يزيد أنه يوم يَجبُّ ما قبله، وكأن مصر ولدت فقط منذ هذا اليوم. وثانيهما يرى أنه يوم مؤامرة كبرى استهدفت خراب البلاد، وتسليمها لتيار ظلامى مدفوع بمحفزات خارجية استهدفت مصر والكثير من بلدان المنطقة.. والعديد من الوقائع تدعم قناعة هؤلاء.
لكن الأمر بالنسبة للخامس والعشرين من يناير تحديداً لا يقف عند هذا الجدل القريب التى تختلط فيه المشاعر والأحداث، كما تختلط فيه مؤثرات خارجية لا يمكن إغفالها. فهذا اليوم تحديداً يحمل ذكرى عزيزة لتاريخ مصر الحديث، ذكرى تضحيات الشرطة من أجل كبرياء الوطن، كما وصفها بحق الرئيس السيسى فى كلمته فى احتفال الشرطة المصرية بعيدها التاسع والستين. وكل من يتذكر مجريات هذا اليوم وما جرى فى الإسماعيلية العام 1952، والتزام الجنود والضباط بالدفاع حتى آخر نفس عن مبنى المحافظة ومقر الشرطة، وعدم الانصياع لتهديدات القائد الإنجليزى رغم الفارق الهائل فى الإمكانيات، يدرك معنى الشرف والوطنية والتضحية بالروح من أجل قيمة عليا، وهى الكرامة. هذه القيمة نفسها هى التى جعلت القائد الإنجليزى رغم عجرفته يأمر بتحية عسكرية للجنود والضباط الشهداء وزملائهم المصابين، لأنهم حاربوا -حسب قوله- بشرف وفدائية.
رحم الله شهداء الشرطة فى هذا اليوم المجيد وقبله وبعده وصولاً إلى يومنا هذا. نذكرهم بكل تقدير واحترام، داعين الله سبحانه وتعالى أن يُسكنهم الدرجات العُلا من الجنة. وحين نذكر الشهداء من الشرطة والجيش فنحن نذكّر أنفسنا وأجيالنا الجديدة بمعنى الوطن ومعنى التضحية من أجله ومعنى الشرف فى الدفاع عن وجوده وعن رموزه. وفى الوقت ذاته ندرك أن هناك جهات متضررة بشدة مما جرى فى يونيو 2013، حين أسقط الشعب حكم الإخوان، ولم تتوقف يوماً عن تشويه كل الرموز الوطنية وكل الأحداث التاريخية المجيدة، والزج بتفسيرات وتقييمات تجافى الحقيقة، مستهدفة زرع بيئة من عدم اليقين بالتاريخ ودروسه وملاحمه الوطنية، وإثارة الشكوك بالحاضر والمستقبل، لعل ذلك يساعدها لاحقاً على العودة إلى المشهد السياسى ولو بعد حين. ومن ثم لا مجال أبداً لتجاهل التاريخ ونقاطه المضيئة، ولا مجال لترك الساحة يتلاعب بها المتضررون. الوقوف أمام تلاعب وخداع هؤلاء ومناصريهم يفرض إعادة التذكير الواعى وسرد تلك المحطات الوطنية مرات ومرات للأجيال الجديدة. لا مجال أبداً لترك الساحة خالية يستغلها المرجفون للنيل من المشاعر الوطنية.
يعرف المؤرخون أن التاريخ بشكل عام للدول والمجتمعات والأفراد والقادة المؤثرين والمؤسسات، يُكتب من زوايا مختلفة، والكثير من مراحله يتعرض لأسباب مختلفة لنوع من التشويه المقصود، أو تقديمه بطريقة تميل بعيداً عن الحقيقة خدمة لتوجه فكرى أو تيار سياسى نافذ. والحوار العنيف الذى يتردد صداه منذ يوليو الماضى فى الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوروبية حول مغزى الحفاظ على تماثيل لرموز تاريخية لعبت أدواراً فى استعمار بلدان أفريقية ونهب ثرواتها وفى جلب الأفارقة كعبيد والتكسب من وراء التجارة بالبشر، يعطينا مثلاً مهماً حول تشابك المعانى والرموز للحدث ذاته أو الشخص ذاته. ومع تطور الأفكار والقيم دائماً ما يُعاد النظر فى تلك الرموز التاريخية وفى مكانتها. لكن تبقى الأحداث المرتبطة بكرامة الوطن غير قابلة للتغيير أو التبديل.
ولذا ستظل بعض الوقائع والأحداث لا تحتمل سوى رؤية واحدة، ومنها تضحيات الشرطة المصرية فى مواجهة الاحتلال فى الإسماعيلية، وضد كل من حاول المساس بالوطن واستقراره. ولذا فإن النظر إلى يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 باعتباره يجُبُّ ما قبله، يُعد تصرفاً ممجوجاً ولا يمكن قبوله لا تاريخياً ولا وطنياً. ولذا فإن فك الاشتباك فى الدلالات الرمزية لهذا اليوم تتطلب النظر إلى الأمور بإنصاف. صحيح هناك تداخل فى الأحداث، لكنه تداخل لا يعنى تفوق حدث على آخر أو أن حدثاً يلغى آخر ويمحوه من الذاكرة الوطنية. وما قاله الرئيس السيسى كان واضحاً حين أشار إلى هذا اليوم أيضاً بأنه يحمل معنى ثورة شباب يتطلع إلى المستقبل.
التطلع إلى المستقبل والثورة من أجله، شىء محمود ولا غبار عليه. والمهم هو التساؤل حول الذى جرى بعد هذا اليوم، ومن الذى خطف تلك الثورة الشبابية، ومن حاول أن يضع البلاد كلها فى جيبه، ومن حاول مصادرة الواقع والمستقبل لمشروعه الخاص الذى لا تتوافق عليه الغالبية العظمى من المصريين، ومن الذى جلب مجموعات الإرهاب إلى عمق البلاد ليعيثوا فيها فساداً، ومن حاول أن يوظف الشعارات الدينية البراقة ليسرق هوية المجتمع وتاريخه، ومن هو الذى استفز مشاعر المصريين وتمسكهم بهويتهم ليثوروا عليه بعد أقل من عام فى الحكم؟ هذه الأسئلة وغيرها حين الإجابة عنها، يصبح تقييم ما حدث فى عام 2011 بحاجة موضوعية إلى وضع الحدود بين معنى الحدث ونتائجه. فهناك فارق كبير لا بد من التأكيد عليه بين حركية الشباب ونقاء فكرته، وبين أهداف القوى التى سعت إلى اختطاف تلك الحركية وأغلقت أبواب الأمل أمام هذا النقاء الوطنى.
سيظل التاريخ شاهداً على أن 25 يناير فى عامى 1952 و2011، نقطة فارقة فى الحياة المصرية. وكما كانت معركة الإسماعيلية علامة فارقة فى علاقة المصريين مع الاحتلال البريطانى، وأسرعت الخطى تجاه ثورة يوليو فى العام ذاته، فإن ثورة الشباب ستظل أيضاً علامة فارقة، لأنها ببساطة رفعت الغطاء عن قوة دينية خدعت الكثيرين قبل هذا التاريخ، دافعوا عنها وتصوروا أنها قوة إصلاحية، يجب أن تُعطى لها فرصة الحكم، وما إن مُنحت تلك الفرصة، فإذ بها سقطت وسط الميدان سقوطاً ذريعاً، أسقط معه كل أوهام التمكين مصرياً وعربياً. وهو السقوط الذى جلب فرصة الثورة الشعبية الشاملة مرة أخرى ضد هذا الخداع، وجلب معه فرصة إعادة بناء الوطن ومؤسساته ودوره وتماسكه وترابط أبنائه.
المعنى ببساطة أننا بحاجة إلى نظرة جدلية للوقائع التاريخية المفصلية. دون تدقيق العلاقة بين الرمزيات والتداعيات وبين القدرة على تصحيح الأخطاء، يصبح لدينا تشوه فى رؤيتنا لذاتنا ولتاريخنا القريب أو البعيد وأيضاً لمستقبل الأجيال المقبلة. النظرة الأحادية للتاريخ من شأنها أن تفسد كل شىء، وأن تمنح للعابثين فرصة لمزيد من بث الشائعات والأكاذيب.