بسيونى الحلوانى
لوجه الله: رحم الله العالمة الأزهرية د.عبلة الكحلاوى
لم تنشغل مواقع التواصل الاجتماعى فى مصر برحيل شخصية عامة كما انشغلت الأيام الماضية برحيل العالمة الأزهرية الكبيرة الدكتوره عبلة الكحلاوى، فانتشرت كلمات الرثاء والوداع لها والحديث عن مآثرها على صفحات كل من يعرفها عن قرب أو يتابع نشاطها الدعوى أو يعرف شيئا عن عطائها الإنسانى والخيرى.
لقد قال شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب فى رثاء العالمة الراحلة أنها كانت "نموذجا للمرأة الصالحة لدينها ومجتمعها، وعندما سلكت طريق الدعوة الى الله ألفتها القلوب وأنارت بعلمها العقول، وجعلها الله عونا لمساعدة الأيتام والفقراء"
وحقا.. لقد كانت د.عبلة الكحلاوى داعية متميزة، سلاحها الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والدعوة الى الله عزوجل بالحكمة.. كانت فقيهة متبحرة فى العلوم الشرعية، منهجها الوسطية والاعتدال، ورسالتها نقل سماحة الاسلام وعدله ووسطيته فى كل ما يصدر عنها من فتاوى وآراء واجتهادات فقهية.
كانت الداعية الراحلة سلاحا فى مواجهة التشدد والغلو فى الدين، وواجهت أصحاب التدين المغشوش، وهؤلاء الذين رفعوا الشعارات الدينية لتحقيق شهرة زائفة أو مكاسب سياسية أو اقتصادية رخيصة.
كانت د. عبلة تجسد فى كل نشاطها الدعوى أن "الدين المعاملة" ولذلك تلح على كل من يستمع إليها أو يلتقى بها ليستفتيها فى أمور الدين أن يكون إنسانا صادقا مع ربه،ليكون صادقا مع نفسه ومع الآخرين، ويفتح الله له كل الأبواب المغلقة، وينعم عليه خالقه بالرضا، ويبارك له فى صحته وعمله وعلمه ورزقه وأولاده.
على مائدة د.عبلة الروحية والثقافية والفكرية والدعوية نهلت الجماهير من علمها واستفادت من نصائحها واهتدت بما هداها الله إليه من عبادة خالصة لوجهه الكريم وكلمة طيبة ونصيحة مخلصة وطباع هادئة ووجه بشوش كله تفاؤل وأمل .
**
كانت العالمة الراحلة رائدة من رواد التواصل الإنسانى والإجتماعى وتعمقت فى تفاصيل العلاقات الأسرية والاجتماعية، وأزعجها ما رأته من قطع للأرحام ولذلك وجهت جهودها للتحذير من هذه الرذيلة الاجتماعية، ودعت الجميع الى التخلص من الجفوة والقسوة التى أصابت نفوسهم تجاه الأهل والأقارب، وكانت لا تتوقف عن دعوة هؤلاء الى هداية السماء، وعمل ما يفيدهم في الدنيا، ويقربهم إلى الله في الآخرة ويعفيهم أو يخفف عنهم عقابه، موضحة للجميع فضائل صلة الرحم والعقاب الرادع الذى ينتظر هؤلاء الذين قطعوا أرحامهم، وكانت دائما تنبه هؤلاء القساة الذين يقطعون صلات أرحامهم بأنهم ينغصون على أنفسهم حياتهم، ويجلبون لأنفسهم كراهية الناس وحقدهم حتى أقرب الناس إليهم، ذلك أن التواصل والتقارب والتراحم يريح النفس ويضفي على الحياة بهجة وسعادة، كما أن الإنسان يستشعر الطمأنينة كلما جد في رعاية أسرته ووالديه وأقربائه، هذا بالإضافة إلى أن الله يكرم من يرعى والديه كرما فوق الوصف فيهبه لقب"بار"وما أروع هذه الصفة التي تجلب للإنسان رضا الله وعظيم أجره وثوابه، كما تجلب له رضا الناس وحبهم وتقديرهم له.. وكانت –رحمها الله - ترى أن غياب صلة الرحم عن حياة الكثيرين يرجع إلى غياب القدوة بعد إهمال تعاليم الدين فى التربية والسلوك العام وتقول: "الأب الذي لا يقوم بواجبه الاجتماعي والإنساني تجاه أقاربه ويقطع صلته بهم، أو يحجم من علاقته بهم يزرع في أبنائه هذه الرذيلة، فصلة الرحم تربية وسلوك عملي يغرسه الكبار في الصغار، وليس مجرد مواعظ ونصائح وعبارات إنشائية لا تغير شيئا على أرض الواقع إذا ما كان الأب قاسيا مع أهله ولا يقوم بواجب صلة الرحم".
ومن أهم ما انشغلت به العالمة الأزهرية الراحلة هو العلاقات الأسرية والخلافات الزوجية، وكانت لا تتوقف فى بيان هدى الدين فى التعامل معها حرصا على تماسك الأسرة وحماية للأطفال من التشرد والضياع حيث حذرت كثيرا من أن هذه الخلافات والمشاحنات المتصاعدة بين الأزواج والزوجات تهدد استقرارنا الأسرى والاجتماعى، وكانت ترى أن خلافات الأزواج والزوجات تتزايد لأسباب تافهة وتشكل خطرا كبيرا على استقرارنا الاجتماعي، فالشكوى منها موجودة في كل البلاد العربية دون استثناء، وغالبا ما تنتهى هذه الخلافات الى أبغض الحلال وزيادة طوابير المطلقات وتشريد الآلاف من الأطفال مع أن هذه الخلافات والصراعات بسيطة وتافهة ويمكن تجاوزها إذا ما التزم الأزواج والزوجات بتعاليم الدين لحل الخلافات الزوجية، وأدرك كل من الطرفين واجباته والتزاماته الزوجية والأسرية قبل المطالبة بحقوقه.
**
كانت الداعية الراحلة "مصلحة اجتماعية" قبل أن تكون "داعية دينية" وكانت تبرز دائما فى أحاديثها دور التربية الدينية فى تقويم الحياة الأسرية، ومن أقوالها: للأسف نحن لم ندرب أبناءنا منذ الصغر على احترام الحياة الزوجية والتضحية من أجلها والصبر على ما يمكن أن يحيطها من متاعب.. وهنا يفتقد الأطفال القدوة الطيبة، بل أقول بكل اطمئنان إن كثيرا من الآباء والأمهات أصبحوا قدوة سيئة لأطفالهم فى التربية الأسرية والحياة الزوجية، فكثير من الأزواج يهدرون حقوق زوجاتهم، ويتجاوزا حدود اللياقة فى التعامل معهن، وأصبح من الطبيعى أن تسمع بين الزوجين ألفاظا نابية أمام الأطفال وقد يتطور التشابك اللفظى الى تشابك بالأيدى، وغالبا ما ينتقل الاسفاف بين الزوجين الى الجيران أو الأهل أو زملاء العمل، وهنا تفقد العلاقة الزوجية أهم وأبرز خصوصياتها وهو الستر وتصبح سيرة الزوجين السيئة على ألسنة الناس.
وحرصت الداعية الراحلة فى معظم أحاديثها الى نشر ما يؤدى الى تحقيق المودة والسعادة بين الزوجين، وكانت دائما تردد أن العلاقة الزوجية لا يمكن أن تستمر وتستقر وتثمر أهدافها الانسانية إلا إذا سادها التفاهم والحب وأدرك الطرفان أن الله عز وجل قد ربطهما برباط وثيق أوضحته الآية القرآنية الكريمة:" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " فلا سعادة بين الطرفين إذا حل الشجار والنزاع محل الرحمة والمودة، ولا سعادة إذا غاب معنى الكلمة القرآنية البليغة( لتسكنوا إليها )عن عقول كل الازواج، فالحياة الزوجية كما أرادها الخالق سكينة ورحمة ومودة وتسامح وعفو وإيثار بين طرفين يشعر كل منهما أنه جزء من الآخر .