الأخبار
جلال عارف
فى الصميم .. المواءمات السياسية.. هل تخرج أمريكا من أزمتها؟
فى ظل الأجواء العاصفة التى تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو أن المواءمات السياسية ستكون العنصر الأساسي في تحديد مصير الرئيس السابق ترامب الذي دخل التاريخ الأمريكى بالفعل بوصفه أول رئيس يتعرض للمحاكمة البرلمانية بهدف عزله لمرتين فى ولايته الرئاسية الوحيدة.
تتحمل الولايات المتحدة المنقسمة على نفسها كما لم يحدث منذ الحرب الأهلية المزيد من الانقسام. ومع أن جريمة اقتحام مبنى الكونجرس مثلت الحسم فى أزمة أمريكا حيث أظهرت عمق التهديد الذى تواجهه الديموقراطية الأمريكية وجسدت نقطة الذروة فى أخطاء الرئيس السابق.. إلا أن هذه الجريمة كانت أيضا تمثل منعطفا فى قلب موازين القوى حتى بين قوى اليمين، فوجدنا العديد من قادة اليمين المحافظ التقليدى يدينون ما حدث ويدعون لمعاقبة كل من شارك فى الجريمة أو حرض عليها، ووجدنا ذلك ينعكس داخل الحزب الجمهورى الذى كان حتى انتخابات الرئاسة حريصا على أن يبدو موحد الصفوف خلف ترامب!!

تطورات الأحداث بعد ذلك عكست حجم الصدمة التى أحدثها اقتحام مبنى الكونجرس وما كشف عنه من تنامى خطر ما اطلق عليه البعض "الارهاب من الداخل" كما عكس قدراً كبيراً من قدرة الديموقراطية على تجاوز المحنة.. انتقلت السلطة بطريقة تجسد الشرعية لكن فى مناخ استثنائى غير مسبوق.. تعقيدات الموقف فرضت نفسها على الجميع فى ظل كارثة "كورونا" وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، ومع تحديات تفرض توحيد الجهد الداخلى يقابلها ميراث من انقسام غير مسبوق فى المجتمع الأمريكي.. الأصعب أن كل ذلك يتم بينما كان "ترامب" مازال يتوعد بالعودة وكان اليقين يزداد بأن "الترامبية" أو نهج ترامب باقية لزمن طويل مهما كان مصير الرجل الذى وجه له مجلس النواب الاتهام بالتحريض على اقتحام "الكابتيول" طالباً من مجلس الشيوخ محاكمته.. رغم إدراك مجلس النواب بتعذر أن تتم المحاكمة إلا بعد نهاية ولاية ترامب، وهو أمر يثير الجدل حول قانونية عزل الرئيس الأسبق بعد ترك موقعه فى البيت الأبيض.

التحركات التي سبقت المحاكمة تقول إن المواءمات السياسية هى التى ستحكم مصير المحاكمة الثانية لترامب وأن الصراع الحزبى لن يفرض سطوته كما كان الأمر فى المحاكمة الأولي. الرئيس الأمريكى "بايدن" استبق الأمر بالإعلان عن أن المحاكمة لابد أن تستكمل رغم أنها قد يكون لها بعض الآثار السلبية. معربا − فى نفس الوقت − عن عدم إمكانية الحصول على الأغلبية اللازمة لإدانة "ترامب" لاستبعاده أن يتخلى عنه 17 عضوا جمهوريا إلا إذا حدثت مفاجآت.

في نفس الوقت كان الجمهوريون يعلنون مقدما موقفهم بإعداد مشروع قرار يطعن فى دستورية محاكمة ترامب، ورغم عدم تمرير المشروع إلا أنه حصل على موافقة 45 عضوا، وهو ما يعنى أن من سيصوت مع إدانة ترامب من الجمهوريين لن يزيد على خمسة أعضاء. ومن هنا أصبح استبعاد الإدانة هو المرجح، مع البحث على حل لا يجسد الأزمة بل يفتح ثغرات فى جدار الانقسام الذى يشطر المجتمع الأمريكي.

في الطريق شواهد على دور مهم يمكن أن يلعبه التفاهم بين الرئيس بايدن وبين زعيم الجمهوريين فى مجلس الشيوخ "ميتش ماكونيل". تاريخ الرجلين وهما يترافقان فى عضوية "الشيوخ" لسنوات طويلة تقول إنهما خبيران فى التفاوض والوصول لحلول وسط مقبولة.

ويدعم هذا التوجه أن "ماكونيل" ورفاقا عديدين من الزعماء التقليديين للحزب الجمهورى لا يخفون إدانتهم لسلوك "ترامب" ولارغبتهم فى إنهاء سيطرة المتطرفين على الحزب، وإن كانوا حريصين − فى نفس الوقت − على عدم الاضرار بمستقبل الحزب.

ويبدو انتصار منطق "المواءمة السياسية" واضحاً فى عدم عرقلة التعيينات الأساسية التى قدمها بايدن للمناصب البارزة فى إدارته. وبدا الامر جلياً فى حالة وزير الدفاع الجديد مع استثنائه من شرط مرور سبع سنوات على تركه الخدمة العسكرية، وبأغلبية وصلت إلى 93 صوتا من الأعضاء المائة ليكون أول وزير دفاع أمريكى من أصل أفريقي.

الحديث بدأ عن احتمال أن يكون هناك قرار بتوجيه اللوم "بدلا من الإدانة" إلى الرئىس السابق بتوافق من الحزبين. وهو قرار يعنى رفض تصرفات ترامب بقرر رسمى لم يسبق أن صدر مثله إلا مرة واحدة مع الرئيس "جاكسون" قبل نحو مائتى عام وتحديداً فى عام 1834.

مثل هذا القرار أو أى قرار قريب منه قد لا يحقق مطالب أى من الفريقين.. لكنه يعطى للجميع ما يمكن البناء عليه. بالنسبة للديموقراطيين سيكون هناك إقرار بأخطاء ترامب وفى مقدمتها مسئوليته عن اقتحام الكونجرس. وبالنسبة للجمهوريين المعتدلين سيحرم انصار ترامب المتطرفين من فرص المزايدة وسيضعف نفوذهم داخل الحزب. وبالنسبة لأمريكا المأزومة فإن عودة العقل السياسى للعمل بكفاءة بعد سنوات من الاضطراب هو أهم ما تحتاجه للتعامل مع انقسام المجتمع، وحصار جماعات التطرف، ولكى لا تبقى طويلا في مواجهة "الترامبية" بعد رحيل ترامب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف