كم توقفت فى صغرى عند قول الله، تعالى، «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»، لما وجدته وقتئذ من صعوبة فى فهم مراد الله فيها، كنت دائمًا أتساءل عن وجه الشبه الذى يضع عضلة القلب بمكوناتها المرنة التى لا صلابة فيها، فى موضع التشبيه بحجارة معروفة بصلابتها حتى تُبنى بها الحواجز، ويتقاذفها الناس فى عراكهم فمن أصابه حجر منها احتاج إلى جراحة طبيب إن بقى حيًا. فقسوة هذه الحجارة، كما وقع فى خاطرى آنذاك، هى الشدة والصلابة المادية، فكيف تتحول هذه القلوب اللينة إلى صلابة أشد من صلابة الحجارة؟! وما انتبهت حينها إلى ثلاثة أدلة حملتها الآية ذاتها لإزالة أى دهشة تعرض لقارئيها: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»، فهذا الاستدراك على قسوة الحجارة بذكر ما يكون فيها من لين ومنفعة وخشوع، وما ينتابها من خشية الله لتهبط بها حتى يصير الجبل دكًا فكأن فتات صخره قطراتُ ماء منهمر. أضاءت لنا هذه الكلمات بيانًا وكشفت لنا وضوحًا أن القلوب المقصودة قد خلت من الخير والخشية التى قد توجد فى تلك الحجارة مخالفة لأصل خلقتها، وقد أزاح الواقع الستار عن حقائق القسوة التى سكنت قلوب البشر، لينطق الزمان بأن القسوة ليست قاصرة على الصلابة المادية، بل إنها فى معانى الأفعال أضحت ذات صور كالحجارة أو أشد قسوة. فالعجب كل العجب من تلك الراحة التى تصحب ارتكاب أكبر الكبائر، حيث ترى أحدهم يقترف الإثم العظيم وهو ساكن النفس مستريح الضمير، يغتصب حقوق اليتامى والضعفاء بدم بارد، وترى بعض من لا يستحقون لفظ الآباء يتركون أولادهم وزوجاتهم دون نفقة أو علاج، وتمتد يد اللص فى جيوب موتى ومصابى الحوادث المروعة ليأخذ ما فى جيبه بدلًا من محاولة إنقاذه أو القيام بواجب تجهيزه ودفنه، رأيت وسمعت عن أناس يتفننون فى صب صنوف العذاب والتنكيل بآخرين ويتركونهم بالعطش والجوع ومنع دخول الحمامات فترات طويلة، وآباء وأمهات ينتقمون من بعضهم بما يودى بفلذات أكبادهم إلى منزلقات نفسية وصحية خطِرة، وذلك فى معارك حضانة أحد الأبوين لأولاده، وسمعت عن أب يشوه سمعة بناته ويتهمهن فى شرفهن، ويلاحقهن فى الدراسة والعمل، وقد يمزق شهاداتهن وأوراقهن لتفويت فرص الحصول على عمل شريف، وآخر يترك بناته فى بيت لا توجد به أدنى مقومات الحياة مع نفقة شهرية لا تكفى ليوم أو بعض أيام مع التقشف الشديد، وهو من الأثرياء، يترك بناته وهذا حالهن، ليقيم الفرسان من زوجة أخرى فى قصر منيف، ورأيت وسمعت من ينكر معلومات من الدين بالضرورة وليته كان من غير المؤمنين به بل للأسف هو من اللابسين عباءته الذين قست قلوبهم فلم تنطق بما قطع به الله من الحق، فيدَّعى ذلك القلب القاسى عدم وجود بعض الصلوات كصلاة الظهر والعصر والجمعة، وينكر حجية السنّة بما فيها من متواتر وغيره، فى خرق واضح لما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا، ويدعى بعضهم الآخر أن الآيات القطعية الدلالة كآيات المواريث تحتمل الاجتهاد ليستنبط منها أحكامًا غير التى عرفها السلف ممن امتلكوا شروط الاجتهاد، وتربعوا على عرشه، وآخر يشكك فى فرضية الحجاب وتحريم الخمر.. إلخ.
وهذا الذى ذكرته من نماذج لقسوة أشد من قسوة الحجارة غير خافٍ عن أحد، بل إننا نطالع أضعافه فى صفحات الأخبار المقروء منها والـمُشاهَد. وقد كتبت هذه الكلمات بعد أن وجدتنى أردد الآية جهرا وأسبح الله بعدها، وذلك بعد ما طالعت من تلك الأخبار المرعبة المتداولة على الشبكة العنكبوتية، وهذه التغطية التى نشرتها جريدة «اليوم السابع» قبل أيام عن حملات طيبة لتطهير المقابر من أعمال السحر، وذلك فى عدة محافظات فى الوجهين القبلى والبحرى، حيث فوجئوا باستخدم السحرة لعظام وجماجم الموتى وأكفانهم وأشياء أخرى شكلت صورها المنشورة معرضًا مفزعًا، وهنا توقفت مع الآية من وجهين: الأول: أنه ما من أحد إلا ويعلم أن السحر مسلك من مسالك الكفر المخرجة من الملة، والعياذ بالله، وإن كان بين العلماء تفصيل فى الوقت الذى يكفر فيه الساحر، حيث يرى بعضهم أنه يكفر بمجرد امتهانه مهنة السحر دون نظر إلى نوع الأعمال التى يعملها بسحره، بينما يرى بعضهم الآخر أنه يكفر متى ارتكب أمرًا مكفرًا كإهانة المصحف أو نعمة من نعم الله كما هو مذاع بين العامة أن مريد السحر عليه أن يفعل شيئا من ذلك كإلقاء المصحف فى حمام أو الاستنجاء باللبن ليحصل على مبتغاه، وكذلك إن عمل سحرًا لضرر شديد يصيب المسحور، ونسمع ونعلم جميعًا أن الفقهاء قد تحدثوا عن عقوبة الساحر ولولى الأمر أن يحكم عليه بالقتل، مع تفصيل كهذا الذى ورد فى تفصيل تكفيره، حيث رآه البعض عقوبة للساحر مطلقًا، بينما رآه البعض الآخر عقوبته إذا فعل بسحره ما يوجب القتل، مع التأكيد على أن شيئًا من تنفيذ العقوبة بالساحر لا يكون لآحاد الناس بل العقوبات تكون عن طريق القضاء، حتى لا يتذرع بعض المضارين بالسحر فيقدم على قتل الغير بدعوى أنه قام بسَحره، حيث يكون معتديًا إن فعل هذا، ويعرض نفسه للقتل قصاصًا ولو كان من قتله ساحرًا بالفعل، وحين نُشرت هذه الصور ومقاطع الفيديو من قبل هؤلاء الشباب الذين حملوا على عاتقهم تطهير المقابر، قلت إن أفعال السحرة هذه ترجمة صريحة لقسوة القلوب المذكورة فى الآية فى أعلى مراتبها، فمع علم الساحر بأنه يسلك طريق الكفر وأنه يعرض نفسه لعقوبة القتل، يباشر أعمال السحر غير مكترث بسوء العاقبة، وهذا منتهى القسوة التى لا مثيل لها فى الحجارة.
والوجه الثانى: هو دخول المقابر التى تهتز القلوب المؤمنة لمجرد رؤيتها، حيث يعلم أصحابها أنهم يومًا سيكونون من سكانها تاركين قصورهم وبيوتهم على مختلف مستوياتها، فهؤلاء السحرة كيف طاوعتهم قلوبهم ليدخلوا المقابر ويضعوا أسحارهم فى أحضان الموتى وأكفانهم، وربما داخل جثثهم البالية، غير عابئن بأنهم حتمًا سيكونون يومًا إلى جوارهم، وأنهم سيقفون بين يدى خالقهم يسألهم عن انتهاك حرمة القبور وارتكاب هذه الجرائم الشنيعة!.
فيا أيها السحرة اتقوا الله، وعودوا إلى رشدكم وأصلحوا أخطاءكم ما أمكنكم فأبطلوا أسحاركم واستغفروا ربكم قبل فوات الأوان، فباب التوبة مفتوح لمن أراد التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وما دام بقى فيكم نفس يتردد فى صدوركم، ولكن لا تسوفوا فقد يتوقف هذا النفس فى لحظة.
ويا أيها الدعاة المخلصون والعلماء العاملون وكل صاحب صوت يسمعه الناس أو كلمة تترقبها أعينهم، صححوا وعى الناس وثقافتهم، وأعلموهم أن الساحر وطالب السحر ومرشده إلى ساحر كلهم فى الإثم سواء. اللهم بلغت اللهم فاشهد.