شكَلَنزة
من الحكايات المرعبة التي كنا نسمعها ونحن صغار تلك الأسطورة أو الحكاية الشعبية عن قرية شكَلَنزة التي تعرض سكانها لعقاب إلهي جماعي لم يوفر أحدا من سكان القرية، صغيرا كان أم كبيرا. كما تقول القصة التي رواها لنا بشيء من التفصيل ذات يوم أحد الأساتذة في مدرستنا الأساسية، وهي:
أن الله وهب سكان هذه القرية "معايين" غزيرة لا تنضب (جمع "معيان" ومعناه في اللهجة الحضرمية النبع الجاري)، فأصبحت أرضهم لذلك خصبة كثيرة الزرع والمحصول فعادت عليهم بالثراء والعيش الرغيد. ولكن أهل القرية الأشقياء لم يقابلوا هذه الهبة بشكر الله وتقديم الثناء له كما كان يفترض منهم، بل جحدوها فكانوا أهل "سلا ودنيا"، وحياتهم مليئة بكل أنواع المجون من سُكر ولهو وشرح "رقص" وغيرها. وبسبب إصرارهم على البقاء في هذه الحالة لم يبقى أمام الصالحين في القرية إلا أن يهجروها بعدما يأسوا من إهتداء أهلها وعودتهم الى صوابهم ورشدهم.
وفي إحدى الليالي كان لدى أهل القرية حفل زواج كبير لعروسين منهم، حضره كل السكان، وأقاموا المدارات "حلقات الرقص" فأشترحوا ورقصوا وسكروا، الرجال والنساء معاً، ودقوا الطبول والدفوف وعزفوا بالمزامير. وبينما هم في ذروة فرحتهم وسلواهم، هطل مطر غزير أفسد عليهم بهجتهم ومنعهم من مواصلة الرقص واللعب، فلم يكن أمامهم الا نقل الحفل الى مبنى من مباني القرية الواسعة كي يكنهم من المطر الساقط، فلم يجدوا حولهم أي مبنى يمكنه أن يضم كل أهل القرية في آن واحد إلا مسجد القرية وجامعها، فأنتقلوا اليه، وفيه واصلوا رقصهم وشرحهم دون أن يقيموا بالا للمكان ولا لقدسيته، فرقصوا داخل المسجد وأقاموا مدارة كبيرة رقصت بداخلها النسوة والرجال الراقصين على أنغام المزامير. فأثار هذا حنق السماء وغضبها الشديد، ليرسل الله لهم نملا ضخم الحجم، لا يعرف مثله في الأرض كلها، حجم النملة الواحدة منه كحجم القط أو الأرنب، ولها أنياب ومخالب حادة ولدغتها سامة قاتلة.
فدخل عليهم النمل بينما هم يرقصون في المسجد وحاصرهم من كل الجهات وقتلهم وألتهمهم جميعا صغيرهم وكبيرهم، واحد تلو الأخر، فلم ينجو منهم سوى رجل واحد أفلت من المسجد وعرج على منزله وأخذ معه صندوقه الذي به أغلى أغراضه، وهرب به الى قرية مجاورة، فوصل إليها مرعوباً تنتفض أطرافه من شدة الخوف. فأستقبله وآواه بعض اهل تلك القرية وسألوه ما حل بقريته وأهلها فحكى لهم ما جرى فيها من وقائع لا تقبل التصديق. ثم تركوه بعد ذلك ليستريح وظنوا أنه يهذي وأن شيئا ما أخافه في الطريق وأفقده صوابه. وقبل ذهاب الرجل الى النوم رأى أن يتفقد أغراضه التي بالصندوق، وما أن فتح صندوقه حتى وثبت منه نملة كبيرة فأمسكت برأسه ولدغته وجدعت أنفه ثم ألتهمت وجهه كاملا. وبعد ذلك ماتت بجانبه تلك النملة الضخمة. فلما حل الصباح وأكتشف سكان المنزل ما جرى ورأوا مشهد النملة الميتة والرجل مصروع بجانبها حتى صدقوا ماقاله لهم ليلة البارحة. ولتصبح شكلنزة من بعدها قرية ملعونة لا أحد يجرؤ على دخولها خوفا من اللعنة. انتهت القصة.
تبعد هذه القرية الخاربة حوالي ٢٠ كم الى الشمال الغربي من مدينة "الشحر" التي كانت فيما مضى الميناء الرئيسي لحضرموت ولشرق اليمن عموما. وهذه القرية هي اليوم أطلال وخرائب حولها بقايا بساتين وجداول ماء. وهي قرية قديمة ذكرت في كتاب (ارتفاع الدولة المؤيدية: جباية بلاد اليمن في عهد السلطان المؤيد الرسولي) على أنها من أعمال الشحر التي لها ايراد سنوي الى خزينة الدولة. وقد ظلت عامرة الى القرن العاشر الهجري حيث ذكرت كقرية مأهولة في حوليات القرن العاشر الهجري للمؤرخ الحضرمي محمد بن عمر بافقيه المسماة (تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر). وقد أصبحت خرابا على مايبدو منذ ما يزيد على القرنين إذ ذكرت كبلدة خاربة في كتاب (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) الصادر في مطلع القرن الماضي. وسبب خرابها هو نضوب معايينها وتعرضها للجفاف ونزوح سكانها وتفرقهم على القرى المجاروة لها كالحوا وزغفة والمعيان .
وإذا ما رأينا في بلدة شكلنزة حاضرة القرى والأرياف من أعمال مدينة الشحر وما تناقلته عامة الناس من حكايات ركيكة حول خرابها كتلك التي تناقلتها كتب التاريخ فيما حدث لبلدة (قابس) التونسية من وباء مع الفارق في فضول القابسيين وسلوان الشكلنزيين الذي يحتاج إلى مبحث خاص لأن أهم دعائمه الشائعات وإن كان من واجب الباحث أن يدوّن الحكايات الشعبية كما سمعها لكن عليه أن يحاول تحليل ما سمعه والتعليق عليه بالمنطق السليم لأنه يعلم أنها ناتجة عن خيال الأميين وأن تفسيرهم لظاهرة ما يدخل عليها الخيال والمبالغة في القول ربما للإفزاع والتخويف أو على النقيض من ذلك للحث على الشجاعة والإقدام وكلها وسائل تثقيفية.