العالم يتغير
دائماً ما كانت أوروبا مسرحاً للتغيرات المفصلية التى شهدها العالم.. تلك القارة العجوز التى انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، بعد مقتل ولى عهد النمسا فى سراييفو، ولم تكد تمر بضع سنوات حتى اشتعلت شرارة حرب عالمية أكبر (1939 - 1945)، عندما انطلق هتلر الزعيم الألمانى المنتخب إلى ابتلاع الديمقراطية التى جاءت به إلى الحكم، وبادر من بعد إلى ابتلاع دول أوروبا دولة بعد أخرى.
دار الزمان دورة كاملة.. وها هو العالم يعيش اختباراً عسيراً بعد قيام الروس بما وصفوه بـ«العملية العسكرية» فى أوكرانيا.. لم يمر 72 ساعة على اجتياح القوات الروسية لحدود عدد من المدن الأوكرانية وسط مقاومة شرسة من الجيش والشعب، حتى سمعنا «بوتين» يتحدث عن وضع سلاح الردع النووى الروسى فى حالة تأهب قصوى!
إنها المرة الأولى التى يتم فيها التلويح باستخدام السلاح النووى بهذه الصراحة، وبهذا المستوى من الرسمية منذ الحرب العالمية الثانية.. فقد ارتج العالم بعنف بعد أن عاين أثر إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما ونجازاكى باليابان عام 1945، وباتت مسألة امتلاك هذا السلاح الخطير تحت الرقابة الدولية المشدّدة.
نظرياً من الصعب ظهور هذا السلاح فى أى مواجهة دولية، لأنه يعنى ببساطة دمار الحياة على الأرض.. والدولة التى تفكر فى استخدامه ستجد من يرد عليها فى التوقيت نفسه بسلاح مماثل، بل قد يكون أكثر غزارة وأشد فتكاً.. فالقدرات النووية لحلف الناتو أضعاف قدرات روسيا.
لا يتعلق الاختبار العسير الذى يعيشه العالم حالياً، بمجرد تصريح -وصفه بعض المسئولين الغربيين بالطائش- جاء على لسان رئيس واحدة من كبريات دول العالم، بل يتعلق بفكرة إعادة التموضع التى تتّجه إليها دولة مثل ألمانيا.. وما أدراك ما ألمانيا! ففى اليوم الرابع للغزو الروسى، أعلن المستشار الألمانى «شولتز» عن إنشاء صندوق خاص بـ100 مليار يورو لتطوير تجهيزات ومعدات وقدرات الجيش الألمانى. وأردف أنه بدءاً من العام الحالى ستتجه الدولة إلى استثمار أكثر من 2٪ من ناتجها المحلى الإجمالى على الجانب الدفاعى.
إنه تحول خطير فى موازين القوة داخل القارة العجوز، فألمانيا أقوى اقتصاد داخل أوروبا، وعندما تُقرّر تعزيز قدرتها العسكرية بهذا المبلغ الضخم، فإن ذلك يعنى ببساطة تغييراً فى موازين القوى الأوروبية.
من اللافت أيضاً أن الحكومة البريطانية أعلنت أن طرد روسيا من مجلس الأمن بات من الخيارات المطروحة لمعاقبتها على غزو أوكرانيا.
المسألة لم تتوقف عند حد الحكومات، فثمة تحول شديد الإثارة على مستوى الشعوب الأوروبية التى لم تكتفِ بالتظاهر ضد غزو أوكرانيا، بل بدأت تطرح فكرة تكوين فيالق مقاومة شعبية تضم متطوعين من دول أوروبية مختلفة يستهدفون دعم الشعب الأوكرانى والانخراط فى كتائب المقاومة للغزو الروسى.
دعنى أذكرك من جديد أن أى دولة مهما كانت قوتها لن تستطيع أن تصمد فى مواجهة العالم، وأى مسئول مهما ظن بنفسه أو ظن به غيره العبقرية ليس فى مقدوره أن يكون أقوى من المجموع، سواء المجموع الشعبى الداخلى أو الخارجى.