أرهق سلاطين المماليك المصريين، كما تشهد على ذلك كتب التاريخ، باستثناءات قليلة، من بين هذه الاستثناءات السلطان «برقوق»، مؤسس دولة المماليك الجراكسة فى مصر.
واسمه بالكامل برقوق بن آنص، ولُقّب بالظاهر.
وهو أول مملوك جركسى يحكم مصر، وإليه يعود الفضل فى تأسيس دولة المماليك الجراكسة التى تقلبت على حكم مصر، وآخر سلاطينها السلطان طومان باى.
تولى «برقوق» الحكم فى ظل فوضى كاملة ضربت البلاد أواخر عهد السلاطين القلاوونية من أبناء وأحفاد المنصور سيف الدين قلاوون، فأغلب السلاطين فى ذلك الوقت كانوا صغار السن (أطفالاً على وجه التقريب)، وخلال هذه الفترة زاد ظلم المماليك الجلبان للأهالى، وفعلوا بهم الأفاعيل، فألهبوهم بالضرائب، واعتدوا على البيوت، وتحرشوا بالنساء فى الأسواق.
وحين وصل السلطان «حاجى»، ابن الأشرف شعبان، إلى الحكم كانت الأمور قد وصلت إلى أعلى درجات السوء وضج الأهالى مما يُفعل بهم.
هنالك ظهر السلطان برقوق، الذى تجد اسمه حاضراً فى المثل المصرى الذى يقول: «برقوق مخلص الحقوق»، ويشير فيه المصريون إلى الشخص الذى تدفع به الأقدار فى موقف فوضوى يستقوى فيه البعض عليهم، فيخلص الحقوق من ظالميهم وينتقم منهم.
وكذلك فعل «برقوق» بالأمراء المماليك القلاوونية الذين استذلوهم، وأتوا لهم بالمماليك الجلبان الذين عاثوا فساداً فى كل مكان، فخلّص بعضاً من حقوق الناس لديهم، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه سفينة المظاليم فى مصر، فقد تمكن «يلبغا الناصرى» -أحد المماليك القلاوونية- من الإطاحة بـ«برقوق» وإعادة الحكم إلى «حاجى شعبان».
اختفى السلطان «برقوق» ومماليكه، وخصص «يلبغا الناصرى» مكافأة قدرها ألف دينار لمن يُدلى بمعلومات عن الجراكسة الهاربين، وخصوصاً السلطان المخلوع، وتم القبض عليه فعلاً، وسيق إلى «الكرك»، وأودع «سجن القلعة»، وعاد المماليك القلاوونية والجلبان إلى أعمال السلب والنهب، فسرقوا البيوت وأخذوا النساء دون أن يتمكن أحد من صدهم.
يقول «المقريزى» فى «خططه» إن الأهالى حينذاك أخذوا يرددون: «راح برقوق وغزلانه وجاء الناصرى -يقصدون يلبغا- وثيرانه».
تمكّن السلطان «برقوق» من الخروج من السجن بمعاونة المماليك الجراكسة المؤيدين له فى الشام، وزحف نحو مصر والتف حوله الكثيرون بالقاهرة المعزية، حتى تمكن من اعتلاء سرير الملك من جديد، واستطاع القضاء على كل الفتن الداخلية التى أطلت برأسها فى كل من مصر والشام، وتفرغ لملاقاة التتار بقيادة تيمور لنك، ففر الأخير من مواجهته حين علم بزحفه إليه.
أقام السلطان «برقوق» الجسور والأسوار والعمائر، ورصد أموالاً ضخمة للإنفاق على وجوه البر والخير والإحسان، ولمّا أصابه المرض، ثم قضى الله فيه أمره، بكاه المصريون وحزنوا لوفاة الرجل الذى ثأر لهم من المماليك القلاوونية والجلبان الذين استذلوهم.
مات «برقوق» وعاش المثل، الذى يبدو أن المصريين اخترعوه على شرفه، سنين طويلة، وتناقلته ألسنة الأجداد حتى وصل إلى الأجيال المعاصرة، ليظل شاهداً على حلم قديم ارتبط بالحقبة المملوكية، وهو حلم يتجدد فى كل العصور، بأن تبعث السماء للناس مخلِّصاً، يطلّع القديم والجديد على مَن ظلمهم.