الرياض
مشاري عبدالله النعيم
تفتت المعايير التاريخية
يكمن مبدأ عدم الثبات النسبي الذي صرت أقيس به جميع الظواهر المعاصرة في تغير مصدر توليد القيم والمعايير خصوصاً آليات التواصل بين الناس، ولهذا المقياس إشارات عدة تجعلنا نتكهن أننا مقبلون على عالم غير مستقر سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً..

يبدو أن العالم بأسره يمر بمرحلة عدم ثقة في كل الثوابت السياسية والثقافية التي شكلت ذاكرة الناس وتاريخهم وربما أعرافهم وتقاليدهم، وصول رجل من أصول أفريقية إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة قبل عدة سنوات، وبلوغ رجل من أصول هندية إلى "داوننغ ستريت" كي يتولى منصب رئيس الوزراء، تمثل بعض بعض الإرباك في المعايير الثابتة التي كان العالم يقوم عليها سابقا، بالطبع في الدول الديموقراطية كل شيء ممكن أن يحدث، لكن لم يدرِ بخلد أشد المتشائمين في كلا البلدين أن يتحول الحال في الألفية الثالثة كي تتبدل المقاعد ويتحول المحكوم إلى حاكم، ورغم أن البعض تنبأ بهذا التحول قبل سنوات، لكن في اعتقادي أنه كان تنبؤاً غير جاد ومن باب التحذير. أن يقود بريطانيا رجل هندوسي الديانة ومن أصول غير بريطانية، فهذا أمر لم يخطر على البال، وبصراحة تخيلت لو أن رئيس الوزراء الجديد مسلم ماذا سيكون الموقف آنذاك؟ وهل سيتحمل الإنجليز أن يقودهم رجل مسلم؟

من المتفق عليه في تاريخ الجنس البشري أنه لا يمكن الركون إلى المعايير المتوارثة تاريخياً بشكل مطلق، حتى لو كانت ولقرون أساس هوية مجتمع من المجتمعات، فكل ما كان يعتقد أنه ثابت أثبت التاريخ أنه متغير، حتى لو كان التغيير على شكل إزاحات صغيرة، كما حدث في بريطانيا، لأن المسافة الزمنية بين بداية هذه الإزاحات ونهايتها هي التي تجعل من تراكم التغييرات غير الملحوظة تتحول إلى ثورة شاملة على المعايير التي كان يعتقد أنها لا تتغير. القرن الواحد والعشرون يوحي بهذه الإزاحات بشكل متسارع أكبر من المعتاد تاريخياً ما يعني أننا مقبلون على تحولات اجتماعية وسياسية يصعب التكهن بها، من الجدير بالقول إنه يكمن مبدأ عدم الثبات النسبي الذي صرت أقيس به جميع الظواهر المعاصرة في تغير مصدر توليد القيم والمعايير خصوصاً آليات التواصل بين الناس، ولهذا المقياس إشارات عدة تجعلنا نتكهن أننا مقبلون على عالم غير مستقر سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً.

تفتت أو انكسار المعايير التي كانت تقود أحكامنا على الأحداث التي تجري حولنا يعني أن هناك معايير جديدة في حالة تشكّل، ما يعني أن قدرتنا على التنبؤ بالأحداث المستقبلية سيكون حولها جدل كبير، فعندما يختل المنهج الذي يجعلنا نقيس به الظواهر حولنا، نفقد القدرة على التكهن والاستشراف ليس في المجال السياسي فقط، وهو الذي يحرك العالم، ولكن في المجال الثقافي الغامض الذي يعيد تشكيل المجتمعات من الداخل ويغير محتوى بنيتها القيمية الجوهرية ويفقدها أو يكسبها مظاهر وقيم جديدة إما تكون بناءة وخلاقة أو تكون سبباً في تلاشي هذه المجتمعات بشكل كامل. قد يشعر القارئ أنني أومئ إلى المخاطر قد تواجهها الثقافة العربية والمجتمعات المرتبطة بها في ظل تحولات المعايير التي كانت تنظم العلاقات بين الأمم، والواقع أنها مخاطر واقعية وقريبة جداً.

لا يمكن لأحد أن يقول إن المجتمع الأميركي أو البريطاني أو حتى السعودي كما هو قبل عشرين عاماً، وليس قبل قرن من الزمن، الملاحظ هو تسارع تفتت المعايير التي تبنيها المجتمعات إلى درجة أنه يمكن أن نقول إننا نعيش عصراً يفتقد إلى المعايير الحاكمة للمجتمع أو إن هذه المعايير في طريقها للزوال. فما كان مرفوضاً قبل سنوات قليلة أصبح مرغوباً وربما محبذاً ومطلوباً، وما كان يمثل القيم الراسخة التي تحدد ما يجب أن يفعله الناس حلت محله قيم جديدة قد يعتقد البعض أنها قريبة من تلك القيم التي نشؤوا عليها.

يعيدني هذا إلى ما ذكره عالم الاجتماع الأميركي "تالكوت بارسونز" أن المجتمعات تمر بأربع مراحل تتقبل خلالها التغيير والأفكار الجديدة، ففي البداية يكتشف المجتمع الخطأ (القادم الجديد)، ثم يحاول أن يقرّبه إلى القيم السائدة، وثم يكيّفه أو يتكيف معه، وأخيراً يتبناه. رأيه هذا قبل عدة عقود عندما كان معدل تغير المعايير والقيم يأخذ وقتاً طويلاً ويحتاج إلى خبرة المجتمع وتجاربه، في وقتنا الحالي لم يعد لهذه المراحل الأربع فرصة حقيقية للتجربة، فتفتت القيم والمعايير وتكسّرها أصبح واقعاً يجب التعايش معه، ورغم أنني أثق أننا ننتمي إلى ثقافة حذرة متشبثة بقيمها ومعاييرها، إلا أن هذا لن يحميها من رياح التغيير العاتية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف