المصرى اليوم
مصطفى حجازى
تركيا.. وصدام السحاب
تركيا.. وصدام السحاب

تركيا تعطل انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلنطى «الناتو».. سجال دائر ولا ينقطع على مدى الأسابيع القليلة السابقة على كتابة هذا المقال.

تركيا تفرض شروطًا مسبقة على السويد تحديدًا، بحيث تلزمها بالكفِّ عن دعم الانفصاليين الأكراد وترحيل متشددى حزب العمال الكردستانى من أراضيها والذين يحملون السلاح فى وجه الحكومة التركية منذ العام ١٩٨٤.

يثأر اليمين السويدى المتطرف - بعنصرية وحمق - مما يراه صلفًا تركيًا يأتى من دولة مسلمة - دونية فى معتقده بالضرورة - فيحرق المتطرف اليمينى السويدى «راسموس بالودان» نسخة من القرآن الكريم، فى فعلٍ شائن أرعن أمام السفارة التركية فى ستوكهولم، ويشنق متظاهرون آخرون دمية بوجه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان.

يتلقف أردوغان السياسى البراجماتى هدية سفه المتطرفين ليعلن مجددًا رفض بلاده القاطع ضم السويد، عقابًا لها على سوء الأدب السياسى بحرق المصحف، والأهم- وهو يصول فى حلقة طويلة من التقريع السياسى لدولة بحجم السويد وقوتها ومكانتها الدولية- يصور نفسه مدافعًا عن الإسلام فى العالم، يحشد جماهيره ويسكت معارضته.

والأهم بامتياز، يحول النقاش السياسى - وهو على أعتاب انتخابات الرئاسة فى مايو ٢٠٢٣ - من المأزق الاقتصادى الذى تحياه تركيا إلى القضايا الثقافية التى يحسنها ويتقن اللعب على أوتارها هو وحزبه «العدالة والتنمية»..!.

أردوغان أكثر من كونه لاعبًا سياسيًا قديمًا.. هو صنيعة السياسة والميكيافيلية.. تنفسها أكثر منه تعلّمها.. راوح فيها بين بهلوانياتها على مسارح الانتخابات وإتقان الجلوس واللعب على رقعة الشطرنج الدولية.

هو ابن المزاوجة بين تطور «الكمالية» التركية والنزق العلمانى، كما أراده مصطفى كمال أتاتورك فى مشروعه لإنهاض تركيا من مقبرة حكم السلاطين.. وبين تطور «الإسلاموية» التى نشأ فى كنفها على يد أستاذه «نجم الدين أربكان» من قبو العمل السرى لتنظيم الإخوان.

إلى معترك سياسى حقيقى جوهره اقتفاء رضا شعبى من خلال عملية ديمقراطية نزيهة إجرائيًا.. وعملية ديمقراطية حرة بقدر ما يمتنع هو ومنافسوه عن دغدغة المشاعر بكذبات كبرى تأتى من رحم حقائق كبرى فى شأن الدين والوطن.

ورغم كون هذه الانتخابات هى التحدى الأكبر فى تاريخ «أردوغان» السياسى، الذى يريد أن يمدد حكمه الذى طال عشرين عامًا منذ أن كان رئيسًا للوزراء فى العام ٢٠٠٣، وكونها هى الأكثر حساسية فى تاريخ السياسة التركية، والتى تأتى حيث الجيش التركى حارس العلمانية كما أراده أتاتورك خارج اللعبة.

بحِكمةٍ ووعى وطنيين تعلمهما من دروس الماضى، وحيث المعارضة التركية المنضوية فى تحالف ما يسمى «طاولة الستة» تنتوى العودة بالبلاد إلى النظام البرلمانى حال فوزها فى الانتخابات.. تصبح التجربة التركية السياسية فى أنضج مراحلها وهى تكتسى ثوبًا مدنيًا وسطيًا عاقلًا بعيدًا عن شطط العلمانية.. كما شطط الإسلاموية والعسكرتاريا.

الأهم أن حزب «العدالة والتنمية» وأردوغان وكل حواة السياسة حوله وكل غُلاة حزب «الشعب الجمهورى» ودعاواهم للحفاظ على أسس الجمهورية، وغيرهم من أحزاب وتنظيمات تركية سياسية أو مجتمعية، ومعهم مؤسسات الدولة.

من قضاء وأمن وجيش فى القلب من ذلك، يقرون فى النهاية بأن الجميع بصدد معترك سياسى تنافسى رُفعت عنه هيمنة السلاح ودعاوى الخيرية المطلقة والوطنية المحتكرة لمؤسسة دون غيرها فى الواقع السياسى التركى.. والذى عانته تركيا واقعًا مزريًا من الانقلابات والتهافت السياسى والاقتصادى عقودًا وحتى وقت قريب.

قلنا مرارًا ومنذ بداية العقد الماضى، إننا - نحن والعالم - فى لحظة فارقة من التاريخ.. تتغير فيها الحقائق قبل الخرائط..!.

وقلنا إن حقائق القوة والقدرة.. والمبادأة والنفوذ... والاقتصاد والحرب.. بل حقائق العقل نفسه كلها تتغير فى العالم الآن..!.

وإن نصيب مصر والعالم العربى منها كبير، إذا وعيناه.. ولكن بحقائق فُرصٍ جديدة للندية والشراكة، بل القيادة فى نظام عالمى جديد يتشكل.. وحينها سألنا: حين يتنادى العالم الجديد لمائدته المستديرة ليجلس الأنداد والشركاء فى هذا النظام القادم والذى يتشكل بالضرورة أمام ناظرينا فى عالم ما بعد أوكرانيا.

هل يملك العالم العربى - ومصر فى القلب منه - ما يقدمه كورقة نقاش تمثل موقفه ومطالبه ومحرماته.. هل يملك أطروحته بعد؟!.. فى حين أن هناك وعلى تلك المائدة المستديرة يعد منذ ذلك الحين ومنذ أكثر من عقد من الزمان أطروحة غربية أمريكية وأوروبية.

أطروحة صينية، أطروحة آسيوية فيها اليابان وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية، أطروحة هندية، أطروحة لاتينية، أطروحة صفوية إيرانية وأطروحة عثمانية تركية.

كل لاعب حول تلك المائدة لم يخلُ واقعه من تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية.. ولكن بقى كل تجمع إنسانى يعرف أولوياته وملامح ما يريد وما لا يريد، يعرف مناط قدرته ونقاط ضعفه، بل مقاتله.. كل تجمع إنسانى يؤمه «العقل والعلم» و«الوطنية الحقة» وتحده «الواقعية» ومحددات «الهوية والأمن القومى».

«الوطنية الحقة»، التى تقتضى أطروحة تنقل حديث السياسة والاقتصاد والدين من نميمة الأخبار إلى جدال أفكار.. وترقى بفعل السياسة من صراع سلطة ودسائس التماس الشرعية إلى تنافس أهلية.. وبفعل الاقتصاد من إطعام بطون إلى ترقية بشر.. وبفعل الدين من الوصاية على الرقاب إلى تحرير الناس..!.

و«الواقعية»، التى تُلِزم بأطروحة تَعِدُ أوطانًا هى «العدل والسكن والحلم».. لا أوطانًا مختزلة فى شخوص أو محتكَرة فى جماعة أو تنظيم أو مؤسسة.. لا تأقيتًا ولا انتقالًا..!.

ومنطق الشعور بالخطر الشديد، الذى يحمل على «أطروحة تلزم شعوبنا بالتنوع»، ثراء كما أراده الله.. تحض على القبول بالاختلاف.. تؤثم القوالب المنمطة بوهم تجييشها حتى ولو إلى حتفها..!.

ومن باب الخوف على «الهوية».. يلزمنا بـ«أطروحة تؤسس للإبداع»، بتسييد القانون من أجل الحرية التى تخلق العدل.. وتؤثم الانغلاق والجمود والتخلف باسم العُرف تارة، وبدعوى الانضباط تارة أخرى..!.

وفى حال تركيا، التى لا نبرئ توجهاتها السياسية من الميكيافيلية، نرى أن مسار أطروحتها العثمانية الجديدة بدأت ملامحها تتشكل منذ مصطفى كمال الذى ادعى قطيعة مع العثمانية كخلافة دينية، ولكنه غرس فى أرض قوميتها مشروعه الوطنى.

وأهم ما غرس هو الانتقال بمنظومة الحكم من حق الملك الإلهى فى كنف السلاطين، إلى دولة مدنية يملكها شعبها ويحكمها من خلال صيغة ديمقراطية.. وإن تعثرت حينًا، بقيت هى الحامية للمشروع التركى الذى يحصد أردوغان بعض ثماره الآن.

ومن تلك الثمار: أن يستطيع الاقتصاد التركى رغم مآزقه أن ينتهج نهجًا يبدو مغايرًا للرطانة التقليدية فى عالم الاقتصاد الكلى، وتقتفى علاج أوجاعها من تراب أرضها وعقول أبنائها، توجه يحض على زيادة النمو فى مقابل سياسة تلجيم التضخم بزيادة سعر الفائدة.. وقد يفلح وهو قادر، لأن رهانه على قاعدة صناعية وتجارية وخدمية وسياحية جاذبة لاستثمارات عربية عزيزة وغير عربية.

استثمارات عربية تهاجر إلى مهاجع الاقتصاد التركى، الذى كان بالأمس القريب تقف حكومته منها موقف ولى الدم..!.. ومن تلك الثمار قدرة تركيا على المناورة والجلد السياسى فى التعامل مع الغرب، وقدرتها على بناء علاقة تحكمها محض المصالح بما فيها تحالف السلاح فى «الناتو»، والقدرة على البناء على ذلك التحالف رغم علمها بالضغائن التاريخية التى يُكنّها الغرب لتركيا الحديثة ومنبتها العثمانى المسلم.

فتركيا تلهث وراء عضوية الاتحاد الأوروبى منذ عقود، ويُتعَامَل معها بعنصرية مقنّعة، فيفشل ملف عضويتها مرارًا، ولكن بعضويتها فى «الناتو» تستطيع أن تبقى رقمًا عصيًا فى معادلة الدفاع والأمن الغربى، لا يمكن تجاوزها أو غض الطرف عن متطلباتها.

تاريخ تركيا كأمّة هو تاريخ توسعى عسكرى غشوم.. لم يؤثر عنها ريادة فى حضارة ولا ثقافة ولا علم ولا دين.. هى أمة محاربة بَنَت تاريخها من دماء أمم استضعفتها، حتى وإن انتحلت الدين عمامة شرعية للاستضعاف والنهب والاستعمار.

ليست كمصرنا منبتًا لحضارة ولا حاضنة لدين الله الواحد بكل تجلياته ورسالاته.. وليست كمصرنا بوتقة لفكر وثقافة وحضارة، إن تكبو تقوم، وإن تتعثر تنهض.. فكيف تعلم الغزاة الغلاظ أن رغبتهم فى بقاء شوكتهم تقتضيهم أن يتواضعوا للعقل ويأخذوا ببعض العلم فيسوسوا بلادهم بشروط الناس لا بقهر الإرادة؟!.

كيف لهم وكأنهم ينافحون على موقع بين السحاب فى مستقبل لا مكان فيه لمن خاصم العلم والعقل؟!.

كيف لهم..؟!.

فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف