الوطن
د. محمود خليل
الغنى والطغيان
الغنى والطغيان


المتأمل لآيات الذكر الحكيم يلاحظ رحمة الله وعطفه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، والدعوة المتكررة لدعمهم والتصدق عليهم وإيوائهم، في الوقت الذي تجد فيه بعض الآيات التي تربط بين الغني وبعض الآفات الإنسانية، مثل الطغيان، والفسق، والفساد، والعلو في الأرض وغير ذلك.

يقول تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»، فالاستغناء قد يؤدي إلى طغيان الإنسان، والاستغناء في الآية الكريمة يأتي بالمعنى العام، فهو يعني التمتع بالمال والثروة، ويعني الغنى بالأهل والعشيرة (العزوة)، ويعني الإحساس بالجاه والنفوذ والسيطرة، بعبارة أخرى يشمل معنى الاستغناء كافة المؤشرات التي تمنح صاحبها إحساسًا بالقوة والسطوة على الآخرين.

والمستغنون المترفون داخل أي مجتمع يمثلون عناصر تهديد له، وليس كل غني مترفًا، فهناك أغنياء يعرفون فضل الله عليهم، ويختلف هؤلاء عن «المترف» الذي يعتقد أن ما حازه من مال أو جاه أو نفوذ مرده علمه وشطارته، تمامًا مثلما ردد «قارون» حين طلب منه قومه ألا يغتر بما يملك، قال تعالى: «إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

لقد رد «قارون» على ناصحيه، كما يحكي القرآن الكريم في سورة «القصص»، قائلًا: «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي».

فارق كبير بين من يعترف بفضل الله ويعلم أنّ الله هو المعطي الوهاب، وبين من ينسب لنفسه الفضل وينسى رب الخير والفضل.

من هذا المنظور يشكل المترفون داخل أي مجتمع عنصر تهديد له، كما ذكرت لك، وفي هذا السياق تستطيع أن تفهم قوله تعالى في سورة «الإسراء»: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا».

ويشير «الطبري»، في تفسيره للآية الكريمة، إلى أن الله إذا أراد بقوم صلاحًا، بعث عليهم مصلحًا، وإذا أراد بهم فسادًا، بعث عليهم مفسدًا، وإذا أراد أن يهلكهم، أكثر مترفيهم، ومعنى «أمرنا» أي أكثرنا، وفي ظني أن الكثرة قد تكون كثرة عددية بزيادة أعداد المترفين الفاسقين، وقد تكون بالبروز النوعي، أي تصدر المترفين للمشهد داخل المجتمع، فيتولون أمر إفساده وزعزعة أوضاعه.

فالمترفون بطبيعتهم يميلون إلى العلو في الأرض وما أكثر ما يفسدون وهم يسيرون في طريقهم نحو الصدارة، وقد ضرب الله تعالى مثلًا لنا على ذلك بـ«قارون» أيضًا، والذي اختتمت قصته بقوله تعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

فالنهاية المؤلمة التي انتهى إليها «قارون» حين خسف الله به وبماله الأرض مثلت نتيجة طبيعية لتجبره وتكبره، فالعلو هو التكبر في الحق، حين تكون الحقيقة واضحة أمام الإنسان فينكرها ولا يقبلها، ويذيع الباطل بدلًا منها، أما الفساد فمعناه الأخذ بغير الحق، وهو يمثل قمة الفساد في الأرض.

والعاقبة دائمًا للمتقين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف