نبيل عبد الفتاح
العقول المتنافسة.. العقل البشرى والاصطناعى التوليدى
العقول المتنافسة.. العقل البشرى والاصطناعى التوليدى
نعيش عصرا مختلفا، ويبدو فى بعض وجوهه حاملًا خيالا جامحا، وبعضا من الغرابة، وعدم القدرة على متابعة تحولاته التقنية والعلمية المتلاحقة، ويطرح اسئلة مختلفة للشرط الإنسانى الوجودى، ومسألة المعنى على الفرد، والمجتمع، والدولة والنظام السياسى والعلماء فى العلوم الاجتماعية والطبيعية والتكنولوجيا! تنفجر أسئلة جد مختلفة ، وتتناسل من.. بعضها، وتثير لدى بعض الفلاسفة، والمفكرين، إشكاليات حول إمكانية فهم، ووصف، وتحليل التطورات التقنية والعلمية المتلاحقة فى عصر السرعة الفائقة. لم يعد أى متخصص فى علم من العلوم الاجتماعية، والطبيعية، والتقنية قادرًا بمفرده على تحليل ما يحدث، والذى يبدو وكأننا نعيش فى عالم متخيل، من السرود السينمائية الخيالية العلمية، أو حالة تبدو وكأنها افتراضية رغم أنها باتت أبرز ملامح عصرنا الفعلى والافتراضى معًا فى ظل تلاحق الثورة الرقمية وتحولاتها، ومعها العقل الرقمى الذى يتشكل من خلال نظام لغوى مختلف عن الأنظمة اللغوية المتعددة والمتكاثرة فى مجتمعاتنا، ونظمه الجيو-لغوية، والثقافية، وتعدد رؤى العالم، من خلال أنظمته اللغوية. باتت اللغة الرقمية عابرة ومتمددة، وتهيمن على كل اللغات عالميا، وستغدو اللغة الرقمية هى العالم فى الأجل القريب والمتوسط.
فى ظل تسارع ابتكارات، وتغيرات الذكاء الاصطناعى التوليدى، وعالم الروبوتات، والإناسة الروبوتية، بات الوجود والشرط الإنسانى فى مأزق غير مألوف فى التاريخ الإنسانى ومراحله المتعاقبة. كانت الآلة والتقنيات فى عصر الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية تطرح إشكالية علاقة الانسان بالآلة، وتأثيرهما المتبادل، وانعكاساتها على العلاقات الاجتماعية، ومفهوم العمل، والاستغلال، وانماط الحياة، والوعى الاجتماعى، والقيم والثقافة. كانت الأسئلة تجد بعض الاجابات الفلسفية والسوسيولوجية والقانونية، وكلها محمولة على إمكانيات السيطرة البشرية على الآلة، ونظمها، وابتكاراتها، وانعكاساتها، فى ظل التنظيم القانونى، والسياسى، والاقتصادى للتكنولوجيا، وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية.
كان الابتكار التكنولوجى، والعلمى، أحد محركات المجتمعات، والأفكار وكانت بعض من النظرة الآداتية مسيطرة، فى إدراك وفهم التكنولوجيا، إلا أنه مع الثورة الصناعية الثالثة، طرحت اسئلة مختلفة حول مسألة السيطرة على التكنولوجيا، وإمكانيات استمرارية الأفكار الفلسفية، والقانونية والاقتصادية السابقة، وبدأ طرح مسألة إمكانيات خروج بعضها عن إمكانيات السيطرة، خاصة مع بعض الاختراقات العلمية الاستثنائية، مع الاستنساخ الحيوانى، وإمكانية تحوله إلى استنساخ بشرى، وهو ما شكل صدمة أدت إلى حظر أبحاثه قانونيا، وبات كما ترشح من بعض المصادر يتم سرًا اجراء بحوثه فى بعض دول آسيا. الاستنساخ البشرى، تم تقييده قانونيا وأخلاقيا، وهى إجراءات كانت من مألوف التنظيم الإنسانى للبحوث العلمية، إلا أن بعض التطورات العلمية الفائقة كانت تحظر قانونيا وسياسيا وعلميا ودينيا، ويتم كسر هذا الحظر، ويتم الاعلان عن الاكتشاف العلمى، ويسهم فى تغيير الحياة الانسانية، ويغدو جزءًا من تطور عالمنا.
يمثل الذكاء الاصطناعى، وتغيراته المتلاحقة، والروبوتات نقلة تشكل قطيعة على جميع الصعد التقنية، والاجتماعية، والفلسفية، والثقافية، والسياسية، والقانونية،وعلى العقل الإنسانى كله - باستثناءات محدودة للقة القليلة من داخل هذا المجال التقنى-، ومن ثم يشكل العقل الرقمى فجوة مع العقل الحداثى، وما بعده، وما بعد بعدهما من حيث النظام اللغوى، ومفرداته، ومجازاته، وإبداعاته، وأيضا من حيث العلميات العقلية ومخرجاتها. الأهم أن العقل الرقمى، والذكاء الاصطناعى كليهما يتفاعل مع بعضها بعضًا، ويساهمان فى تطور بعضهما . كلاهما يميل إلى الايجاز المفرط، والبُعد عن الإسهاب، والسيولة، وينزعان إلى الانضباط فى المفردات، والتعبير فائق الإيجاز. الأخطر أن العقل الذكى التوليدى، يتقدم فى تطوراته المتلاحقة والسريعة، وبدأ فى إبداء ردود أفعاله وإجاباته عن الاسئلة من مستخدميه التى تعتمد على نظام البيانات الضخمة -Big Data -، وهو فى مسار تنقية البيانات من المعلومات المغلوطة، والسرديات اللامنطقية والمتناقضة، والاكاذيب السوداء، وايضا فى إبداء الرأى حول الاسئلة والسرديات التى يتعامل معها، ويبثها إلى طالبى السؤال عنها! فى مرحلة مقبلة، وتبدو سريعة فى الآفاق المنظورة ، سيتشكل على نحو متنام العقل الذكى الاصطناعى التوليدى، ويتجاوز العقل الإنسانى والرقمى معا، ويغدو عقلًا مستقلا، ومن ثم يأخذ مسارات مختلفة عنهما معًا، ومن ثم تظهر انعكاساته،وتفاعلاته، وتجسيداته فى العقل الروبوتى وردود أفعاله تجاه العقل، والفعل البشرى، والتى تظهر بوادرها فى البحوث التى قامت بها بعض الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، وأدى إفشاء بعض مديريها البارزين لهذا الخبر/ السر، إلى فصله من الشركة.
ما دلالة هذه البدايات للتحول فى العقل الروبوتى، والعقل الذكى الاصطناعى التوليدى؟
دلالات بالغة الخطورة، والأهمية على عديد المستويات يمكن طرح بعضها فيما يلى:
- تجاوز العقل الإنسانى، فى عملياته، وابتكاراته على مستوى التفكير، والأهم تحول هذا الابتكار الخلاق إلى مخرجات، وإنجازات على مستوى التقنى والعلمى، ملامح هذا التغير ستبدأ فى التلاحق والتجسد فى الآفاق المحلقة فى مجال الذكاء التوليدى، والروبوتى.
- بشائر العقل الروبوتى والذكى التوليدى ، بدأت فى عديد المجالات، ومنها مفهوم العمل الانسانى المحمول على الذكاء البشرى فى مجالات الطب البشرى، التشخيص ،والعمليات الجراحية، والأداء الدقيق الذى يتجاوز أداء كبار الأطباء، وإنجازالعمليات الجراحية فى فترة زمنية وجيزة ولا تقارن بالمدد الزمنية لعمل كبار الجراحين ذائعى الصيت.
فى مجال السينما، يستخدم الذكاء الاصطناعى، فى عديد مكونات العمل السينمائى، وفى تخليق تخييلات سينمائية، وإنجازها فى الأفلام، والإنتاج السينمائى. فى مجال العمل، دخل الروبوت فى عديد من تفاصيل نظام العمل والإنتاج التقنى والاستهلاكى والخدمى، ومعه العقل الرقمى، والذكاء الاصطناعى التوليدى.
فى مجال الهندسة والبناء، باتت تخضع لعمل البرامج الهندسية والتخطيطية الذكية، ربما يتجاوز بعض التقاليد والنظريات والإنجازات الهندسية والمعمارية والتخطيط العمرانى وفى المواصلات والاتصالات، وتجاوز بعض العقل الهندسى البشرى الخلاق ، والاستثناءات محدودة جدا.. جدا، ومع ذلك توظف غالب العقول الذكاء الرقمى والتوليدى.
فى مجال البحوث العلمية، ثمة تعاظم لدور الروبوتات والذكاء التوليدى، وفى العلوم الاجتماعية، باتت مصدرا للسرقات العلمية البشرية، من الباحثين الكسالى فى دول عربية عديدة، ومن ناحية أخرى، هناك برامج للكشف عن هذه السرقات العلمية، فى ظل تدافع محدودى المعرفة والذكاء للحصول على أوراق تفيد حصولهم على درجات علمية للوجاهة، والاستعراض الاجتماعى، فى عصر لم يُعد يأبه بمثل هذا النمط الأقل من الوجاهة الاجتماعية! وإنما بات يكرس العقل التافه الكسول.
فى مجال الرواية والقصة والمسرحية والفنون، أثرت الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى التوليدى على سوق الإنتاج الأدبى، وعلى الكتابة والخيال واللغة الأدبية، وتكاثرت عمليات استعارة الأفكار، والسطو على بعض الأعمال الأدبية العالمية، وإعادة أقلمتها فى واقع اجتماعى وسياسى مغاير لها!
فى مجال الفنون التشكيلية، بات الذكاء الاصطناعى التوليدى، يبدع أعمالا مهمة، بعضها فاز بجائزة أولى وعند استلام الجائزة، قال الفنان البارز الذى قدم اللوحة للمسابقة، إن الذى يستحقها هو الذكاء الاصطناعى!
فى كل تفاصيل الحياة، دخل العقل الرقمى، والذكاء التوليدى، والروبوتات فى تشكيلها، وسيتزايد حضورها الفاعل، ومعها أسئلتها المغايرة لمألوف العقل الحداثى وما بعده ، وما بعد بعده فى سرعة فائقة. ظهور العقل الاصطناعى التوليدى بات يطرح تحديات مختلفة على عقل المؤسسات الدينية الرسمية وغيرها من الجماعات ، وأيضا على العقل الدينى النقلى، والتجديدى معًا!.