انقلاب القيم
امتلأت مواقع التواصل الاجتماعى بفيديو وتفاصيل ما جرى فى إحدى لجان الثانوية العامة فى القاهرة للبنات، حيث اقتحمت أمهات الطالبات المدرسة لتطاردن المدرسة التى قامت بمهمتها فى اللجنة ومنعت الغش، فاشتكت الطالبات، فما كان من الأمهات إلا أن أعلن القصاص من المدرسة وطاردنها وانهلن عليها بالضرب والسب لولا تدخل ضابط البوليس وأمناء الشرطة.. السباب كان ألفاظا فى شدة البذاءة، والأسوأ أن فى مقدمة السباب كان السب بـ«يا مسيحية»، على أن هذا لفظ سباب تستحقه المدرسة التى جرؤت رغم كونها مسيحية على أن تمنع الغش الذى كان سيساعد أولادهن على النجاح والغش فى نظرهن وأن من حق أولادهن وليس من حقها هى كمشرفة أن تمنعه.
منذ أن انتشر الغش الجماعى بالميكروفونات فى المحافظات ومنذ أن انتشرت لجان أولاد الكبار التى يتم فيها تملية الإجابات النموذجية على الطلاب ليحصلوا على تسعة وتسعين ثم يرسبون فى أول عام بكلية الطب فى كليات الصعيد، ليظهر حقيقة ما جرى فى هذه اللجان.. منذ أن انتشر الغش بات حقاً للطلبة والطالبات، بل وشارك فيه الأهل أيضاً وضاعت القيم وانقلبت الحقوق، فلم يعد من حق المجتهد أن يحصل على أعلى الدرجات، وليس من حق الفاشل أن يحصل عليها لمجرد أنه قام بالغش، بل إن الأمور تطورت مع تطور التكنولوجيا ومع استخدام الطلبة لأحدث السماعات التى تعينهم على الغش.. هذا مجتمع فقد بوصلته تماماً، ووصل إلى حد الاعتداء على الأمين لأنه لم يسمح بحدوث جريمة الغش، ووصل الانفعال إلى اقتحام المدرسة والاعتداء على المدرسة بصفتهم أصحاب حق.
الأسوأ أن المواءمة تدخلت فى هذه الواقعة أصلاً فتم الصلح ما بين الأمهات والمدرسة، وهنا يجب أن نتساءل: ما هو التهديد الذى تمت ممارسته عليها لتقبل الصلح، وإذا كان قد تم الضغط عليها أو التهديد فأين حق الدولة والمجتمع من هذه الواقعة، وما الذى دفع وزارة التربية والتعليم للصمت وتمرير هذه الواقعة المشينة؟.. فرض القيم لا يأتى بالمواءمات والصلح، وكأن شيئاً لم يكن ولم تقتحم هؤلاء الأمهات المدرسة، ولم تقمن بسب وقذف المدرسة، ولولا تدخل البوليس لقمن بضربها وسحلها على الأرض حتى إنها لم تستطع الخروج من المدرسة إلا تحت حراسة قوات البوليس فهل ينتهى الأمر بهذا الشكل أم أن هؤلاء الأمهات يستحققن العقاب والمساءلة عما فعلن، ولا يمكن أن يتصور أن الموضوع قد انتهى عند هذا الحد.
نحن ننحدر فى القيم إلى القاع حيث المعتدى والمنفلت يعتبر نفسه صاحب الحق والأمين، والذى يراعى وظيفته ودوره يتم سبه وقذفه والاعتداء عليه.. هل هذا مجتمع سليم، أم أنه مجتمع مريض بل مريض جداً؟، والمشكلة هنا أن التدخل ليس لعقاب الجانى، بل لتخليصه من الجرم وإنهاء المشكلة، وكأن ما جرى لم يجرِ.. هذه ليست جريمة فى حق الطالب المجتهد فقط الذى بذل كل جهده ليأتى من يغش ليسرق حقه، بل هى أيضاً اعتداء على القيم التى يجب على المؤسسات أن ترسخها فى المجتمع وإلا انفلت الأمر.. الصلح ليس خيرًا.. الخير أن يدفع المعتدى ثمن جريمته وما اقترف.