توفيق اكليمندس
خواطر حول مشروعات دراسة المجتمعات الغربية
بادئ ذى بدء أنبِّه القارئ الكريم إلى عدم إلمامى بأحوال الدراسات التى تتناول المجتمعات الغربية فى المراكز البحثية والجامعات المصرية والمؤسسات السيادية، فمقالاتى التالية دعوة إلى فتح حوار حول تلك القضية البالغة الأهمية، وقد تكون فرضياتى خاطئة وغير دقيقة وظالمة، فليعذرنى مَن هو أعلم منِّى وليدلى بدلوه، شرعيتى الوحيدة هى معرفتى العملية بالمجتمع الفرنسى ومؤسساته وجماعته العلمية وانطباعاتى عن العملية التعليمية المصرية التى أتشرَّف بمشاركتى فيها المحدودة.
لا بد من مقدمة عن أحوال المعرفة والدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية فى الغرب، وأكتفى هنا بفرنسا نموذجًا، أصدقائى الفرنسيون -ومنهم فطاحل وعمالقة أدين لهم بالكثير- يجمعون على تشخيص صادم لأحوال العلوم السياسية والاجتماعية الفرنسية، تلك العلوم عاجزة عن وصف مجتمعاتها وعن بناء معرفة ذات مغذى عنها، وتفسير تلك الكارثة يختلف من أستاذ إلى آخر، ولكنهم يجمعون على ذكر الخلط بين الأيديولوجية والعلم، بمعنى أن الباحث يعتقد أن أيديولوجيته علم وأن الحديث العلمى أيديولوجى، وأن واجبه تغيير المجتمعات والمؤسسات الدولتية وتأديبها وقولبتها لتكون صالحة وَفقًا لتصوراته، وأنه يجاهد لإلقاء الضوء على مظالم، بعضها حقيقى والبعض الآخر وهمى، ولا ينتبه إلى عمق وصدق المقولة «إن زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده»، فالإصرار على وصم كل علاقة اجتماعية بالظلم يعطّل محاربة الظلم الحقيقى المفسد لحياة الناس، ويظن الباحث أن الاكتفاء بالوصف والتحليل وبيان منطق الأشياء (أى بالمهام العلمية) هو تكريس لواقع مرفوض، كل هذا لا يمنع وجود قامات عظيمة، العلامة الفرنسى المتفرّغ للعلم موجود، بدر جميل فى ليلة ظلماء، ولكن كتبه ليست فى المقرر ولا يوصى المدرسون والأساتذة المؤدلجون المغفلون بقراءتها، وبالطبع، يستطيع المنهج السائد وصف بعض الظواهر وصفًا عميقًا وطرح بعض القضايا المنسية طرحًا مفيدًا، ولكن أداؤه العام ضعيف والحصاد مُر والتعليم عاجز.
سبب آخر للأزمة هو سوء التنظيم الذى يضر بالحياة الجامعية ضررًا بليغًا، وقال لى أستاذ قانون عظيم إن تاريخ إصلاح المنظومة الجامعية منذ الستينيات هو تاريخ من القرارات الغبية وآثارها الكارثية، كل قرار يفاقم من المشكلة ويزيدها عمقًا، وعلى سبيل المثال لا الحصر على الطالب الذى يقوم بتحضير رسالة دكتوراه أن ينهيها ويناقشها فى ثلاث سنوات فقط لا غير، وهذا ضرب من ضروب المستحيل، إلا لو كانت الرسالة تكرار لمقولات منشورة ونقل عن أبحاث سابقة مع إجراء عدد محدود من المقابلات تحل محل دراسة حقيقية للواقع والمادة موضوع البحث، والنتيجة هى فشل ذريع فى فرز المرشحين للمناصب الجامعية، لأن القادر على «الكلفتة» وعلى المعالجة السطحية يتمتع بميزة نسبية لو قورن بالباحث الجاد الذى يريد أن يعطى للبحث حقّه والوقت اللازم، طبعًا هناك نوابغ يستطيعون أن يتأقلموا والنظام الجديد، ولكنهم أقلية لا يُقاس عليها.
وبصفة عامة تعتبر إدارة عامل الوقت مشكلة حقيقية، فالبحث الجاد يتطلب سنوات، وكان النظام القديم يترك حرية واسعة للباحثين فى اختيار القضايا والموضوعات وفى تحديد وتنظيم الوقت اللازم للبحث، وكانت النتيجة السماح للفطاحل والموهوبين بالتمهُّل فى الإنتاج وبالتدقيق المتعمّق، وطبعًا كان هناك متطفلون لا يكتبون كلمة ولا يتعلمون شيئًا ويقبضون مرتبات دون وجه حق، أى أن النظام القديم سمح بظهور فطاحل مقابل تسامح مع عاطلين معطلين، أما الأنظمة الجديدة فهى تضغط بشدة على الباحثين لينتجوا سنويًّا كمًّا محددًا من الصفحات ومن المقالات، وتحدّد الوقت المسموح للقيام ببحث، بحيث لا يزيد على فترة ما، وتطبق بصفة عامة سياسة مستوحاة من نظم الإدارة والحوكمة الحديثة مع تركز مذموم على الكم على حساب الكيف، وللحديث بقية.