صبرى حافظ
متغيّرات الثقافة وولاءات المثقف والصداقة
سألنى سائل: هل هناك تقاليد حقيقية للصداقة بين الكُتَّاب والأدباء؟ ولماذا تقطَّعت سبل الصداقة بينك وبين عدد من رفاق رحلة البدايات الثقافية؟ وقد وجدت أن هذا السؤال يستحق أن أتوقَّف عنده قليلًا، كى يعرف القراء أن الصداقة كالحياة فى سيرورة مستمرة. تتغيَّر مساراتها كما تتغيَّر عناصرها.
وأن تغيُّر الصداقة كتغيُّر البشر موضوع الصداقة يتم فى مسارات متعددة وأحيانًا كثيرة متناقضة. وأن تصوُّر أن هناك صداقات دائمة، وهى عادة قليلة ونادرة، كتصوُّر أن الحياة ثابتة لا تتغيَّر. ولأن متغيّرات الحياة وتبدلات إيقاعاتها، وما تفتحه أمام البعض من إغراءات تصعب كثيرًا مقاومتها، أكثر من أن نحصيها، فمن الطبيعى أن تتغيَّر الصداقات بتغيُّر مواقف أى طرف من طرفَيها. حتى لو كان التغيُّر من طرف واحد، بمعنى أن تتغيَّر مواقف طرف، بينما يظل الآخر ثابتًا على مواقفه الأولى التى بنيت تلك الصداقات عليها، خصوصًا إذا ما تعلَّق الأمر بالصداقات فى مجال الثقافة وهو مجال ملىء باللاعبين المختلفين، وأهمهم بالطبع المؤسسة السياسية التى تريد أن تسخر الثقافة والمثقفين لخدمة مخططاتها.
فالصداقات، وصداقات المثقفين خصوصًا تنبنّى منذ بداياتها، فى مراحل التكوين الثقافى وترسيخ الخطى الأولى على درب الكتابة على نوع من القناعات الثقافية المشتركة، التى كثيرًا ما تكون فى تلك المرحلة الباكرة أخلاقية وشديدة المثالية. أى أنها تنهض على مجموعة من الولاءات لعدد من القيم والأفكار الأيديولوجية منها والأخلاقية على حد سواء. وولاءات المثقف الأساسية لا يجب أن تكون لأشخاص بعينهم، مهما كانت وثاقة صلته بهم، ومهما كانت علاقات الصداقة التى سبق أن جمعته وإياهم. وإنما يجب أن تكون لمجموعة راسخة من القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية الأصيلة. وللموقف الفكرى النقدى الحر، وهى قيم ضميرية ثابتة لا تتغيَّر، بينما يتغيَّر البشر ويتحوَّلون ويتلوَّنون، تحوّلات تصل فى بعض الأحيان حدًّا يتنكرون معه لكل ما دافعوا عنه من قبل فى بواكير حياتهم، وأسسوا بناء على هذا الدفاع قسمًا كبيرًا من رأسمالهم الثقافى.والمثقف إنسان كغيره من البشر، له صداقات شخصية عليه أن يكون وفيًّا لها. لكن علاقاته الثقافية بما فيها صداقاته الثقافية، هى فى نهاية الأمر جزء لا يتجزّأ من دوره الثقافى العام، ومن قناعاته الفكرية ومجموعة المواقف التى يتخلق عبرها هذا الدور ويمارس فعاليته فى الواقع. ولا يعنى هذا أنه ليست للمثقف صداقات بين المثقفين، بل إن الصداقات الثقافية تلعب دورًا كبيرًا فى تكوين المثقف حينما يسعى عادة مع مجموعة من مجايليه لبلورة رؤيته ولعب دوره فى الحياة الثقافية. وتتحوَّل هذه الصداقات فى كثير من الأحيان إلى تجمعات أدبية وثقافية، بل وإلى مدارس واتجاهات فكرية وفنية، خصوصًا إذا ما تمت فى مناخ نقدى حر مفتوح.
فمجموعة القيم الأدبية والفكرية التى تلتف حولها تلك الصداقات هى التى تفرز الأفكار والمدارس والاتجاهات عن بعضها بعضًا، وهذا الفرز والتنوع يثرى الحياة الثقافية ويرفدها بالجدل والحيوية. ويدعم هذا الجدل تلك الصداقات ويثريها خصوصًا فى المجتمعات التى تتمتع بتقاليد ديمقراطية عريقة، ويتمتع فيها المثقف بقدر كبير من الاستقلال الاقتصادى والسياسى بالتالى، كما هو الحال فى الغرب، بل يحيلها إلى أداة لإثراء التيار الفكرى أو المدرسة الأدبية التى ينتمى إليها الأصدقاء، أو إلى زعزعة الاتجاه الآخر الذى يروج له الغرماء. مثل تلك الصداقات الحرة المفتوحة لا تتم فيها مراعاة الصداقة على حساب القيم الفكرية والأخلاقية منها على السواء، بل تتعزز بها تلك الصداقات وتنمو وتزدهر مع ازدهار الأفكار التى تنهض عليها. كما أن شبكتها العقلية والنقدية معًا هى التى تحمى المثقف من الانحدار أو التردى.
أما فى مجتمعاتنا العربية فإن الأمر مختلف تمامًا، ليس فقط لأن المثقف لا يتمتع باستقلاله الاقتصادى الذى ينبنى عليه استقلاله السياسى، وهذا أمر يضعضع مكانته. ولكن أيضًا لأنه ومنذ ارتكب محمد علِى مذبحة المثقفين الشهيرة التى أطاح فيها بالزعامات الثقافية التى أتت به للحكم وعلى رأسها عمر مكرم، بعد مذبحة القلعة التى تخلص فيها من المماليك، ومنذ تعرض المثقف لخيار صعب بين الموقف مع الثورة العرابية، أو مع الخديو الحاكم الذى تعاون مع الاستعمار البريطانى لمصر، والمؤسسة السياسية تسعى لاحتواء المثقف أو البطش به. منذ هذا التاريخ الباكر قرب نهاية القرن التاسع عشر، انقسم طريق المثقف بين أن يكون من أحفاد عبد الله النديم الذى انحاز حتى النهاية إلى الثورة، ودفع الثمن غاليًا، أو من أحفاد علِى مبارك الذى اصطف مع الخديو فأرسله مع الخائن محمد سلطان كى يسهل للإنجليز هزيمة الثورة العرابية واحتلال مصر، واستقوى بعدها مباشرة وازداد نفوذه فى المؤسسة.
منذ ذلك التاريخ البعيد وتاريخ الثقافة فى مصر، وفى أى بلد عربى فى القرنين الأخيرين هو تاريخ التوتر بين المؤسسة السياسية والثقافة من ناحية، ومعها المثقف الذى تم احتواؤه وتحول إلى أداة طيعة فى يد المؤسسة أو بوق لها، وبين المثقف الحر المستقل الذى يحرص كما يقول إدوار سعيد على أن يطرح الحقيقة فى مواجهة القوة/ السلطة. هذا المثقف الحر الذى يحرص على استقلاله ويقبض على الحقيقية كالقابض على الجمر يتعرّض عادة للبطش الذى يمتد من التصفية الجسدية إلى السجن السياسى وحتى التصفية المعنوية، أو إحاطته بمناخ طارد يدفعه لترك بلاده واللجوء إلى المنفى، كما هو الحال مثلًا مع عدد كبير من المثقفين العراقيين أو المصريين أو السوريين، وغيرهم من المثقفين العرب. والمفارقة المؤسية هى أن معظم المثقفين يبدؤون مستقلين كى يتكون لهم قدر من رأس المال الرمزى فى المجال الثقافى، وكى تصبح لهم مصداقية ثقافية فى المجال الأدبى أو الفنى الذى يختارون الإبداع فيه. ثم تتطوَّر بهم الأمور وتتشعب المسالك. والواقع أن كثيرًا من صداقات المثقف فى مجال نشاطه تبدأ فى مرحلة البدايات والاستقلال تلك. وهى المرحلة التى يتم فيها الخلط بين الولاء لتلك الصداقات والولاء لمجموعة القيم الثقافية والأخلاقية التى كونت رأسمال المثقف الرمزى، وأسهمت فى تخليق مصداقيته. لكن ما أن يسعى المثقف لتحويل رأسماله الرمزى ذاك إلى رأسمال اقتصادى، وإلى نفوذ وسلطة سهلة، حتى تبدأ عملية فرز قاسية تتعرض لها تلك الولاءات، خصوصًا إذا ما دخلت المؤسسة السياسية على الخط، وهى عادة لاعب مباشر أو غير مباشر فى تلك اللعبة الخطرة. هنا يحدث الصراع بين نوعَين من القيم وصنفَين مختلفين كلية من رأس المال. فلأى منهما ينحاز المثقف؟ هذا سؤال يحتاج إلى تأمل وعودة إليه فى قابل الأيام.