التحرير
شعبان يوسف
أحمد فتحى شاعر «الكرنك» و«قصة الأمس».. المنسي
اختصر المؤرخون والمتابعون للحركة الشعرية والفنية المصرية، كثيرًا من الشعراء والروائيين وكتاب القصة والمسرحيين فى نصوصهم الشهيرة، بينما تنطوى حيواتهم الأدبية والفنية على إنجازات أخرى، ربما تكون أكثر جمالًا ونضجًا ورقيًّا مما هو معلن ومعروف، ويحدث هذا كذلك مع الممثلين، ولأن التمثيل يخضع للفرجة، فيتم اختصار الممثل فى بضعة مشاهد وحركات، ويتم إغفال إنجازات الممثل الأخرى، التى تحتاج إلى كثير من التأمل والتحليل.

وكما يخضع الممثلون لهذه التصنيفات الضيقة والمحدودة، يخضع شعراء الأغنية لهذا الاختصار وربما الابتسار، فيولد التعريف وينمو ويترعرع وتتوفر له كل عناصر الرعاية بالشاعر محدودة ومرتبطة بأغنية ما، غناها مطرب مشهور، أو نشدتها مطربة كبيرة، وهذا حدث مثلا مع الشاعر أحمد ناجى، الذى غنّت له أم كلثوم قصيدة «الأطلال»، فأطلق عليه النقاد «شاعر الأطلال»، وتم إهمال بقية شعره الرائع، وكذلك حدث مع الشاعر على محمود طه، عندما غنى له محمد عبد الوهاب قصيدته «أخى جاوز الظالمون المدى»، فاشتهر بها، واشتهرت به ولم يتعرف القارئ عبر أجيال وعقود عديدة على دواوين وقصائد الشاعر الأخرى، والتى تفوق هذه القصيدة بمراحل.

وما حدث مع أحمد فتحى، الذى أطلق عليه «شاعر الكرنك»، أسوأ بكثير مما حدث لناجى ولطه، لأن هذين الشاعرين تم الاهتمام الرسمى بما كتبه كل واحد منهما على مستوى الشعر والنثر، فإبراهيم ناجى تشكلت لجنة من أجل جمع تراثه الشعرى فى مطلع الستينيات، وأصبح ديوانه الكامل أو شبه الكامل بين أيدى الناس، وهناك دور نشر عربية أعادت إصدار أعماله الشعرية فى طبعات أخرى، وفى السنوات الماضية توّفر الشاعر الراحل حسن توفيق على جمع تراثه الشعرى والنثرى كله، وأصدره فى مجلدات، بغض النظر عن الاختصار الذى ذكرناه فى البداية عن أن إبراهيم ناجى ظل «شاعر الأطلال»، حتى لو كانت دواوينه منشورة، وكذلك حدث لعلى محمود طه، فوجد من يجمع دواوينه الشعرية، وفى ما بعد جمع الكاتب الصحفى والباحث محمد رضوان أعماله النثرية، وأصدرها فى مجلدات، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

أما أحمد فتحى، الشاعر الذى اقترن اسمه باسم قصيدته «الكرنك»، لا يكاد يعرف عنه الباحثون شيئًا، رغم أن الشاعر صالح جودت أصدر عنه كتابا صغيرا، صدر منذ سنوات بعيدة عن دار الهلال، وأن الكاتب محمد محمود رضوان أنجز كتابا عنه كذلك، وضمَّنه بعض أشعاره التائهة فى أضابير الصحف والمجلات القديمة.

وقصة أحمد فتحى الشهيرة والمعلنة، أنه كان يعمل فى القاهرة مدرسًا، ولكنه كان مشاكسًا بعض الشىء، فتم التنكيل به، ونقله إلى مدينة الأقصر، ليعمل فى وظيفة صغيرة فى الكرنك، ولأنه شاعر وكاتب وقارئ عميق، راح يتأمل التراث المصرى العريق، ويرصد الأمجاد والإنجازات العظيمة للشعب المصرى، فكتب قصيدته الرائعة «الكرنك»، والتى قال فى مطلعها:

(حلم لاح لعين الساهر

وتهادى فى خيال عابر

وهفا بين سكون الخاطر

يصل الماضى بيمن الحاضر

طاف بالدنيا شعاع من خيال

حائر يسأل عن سر الليالى

يا له من سرها الباقى ولى

لوعة الشادى ووهم الشاعر).

إلى آخر القصيدة المعروفة والمشهورة، التى أعطاها فتحى إلى أحد أصدقائه فى الإذاعة المصرية، وليعطيها صديقه للموسيقار والفنان محمد عبد الوهاب، ليغنيها، وتهتم الإذاعة بها اهتماما منقطع النظير، وتظل تذيعها فى غالبية الأوقات، مما جعل اسم الشاعر معروفا بدرجة مذهلة بقصيدة واحدة.

وهذا جعل فتحى يعود إلى القاهرة، ليتفرغ لكتابة الأغانى، وعاود التعامل مع محمد عبد الوهاب، ولكن عبد الوهاب لم يعره اهتماما، رغم رقة ورفعة ما كان يكتبه، وهذا دفعه إلى الإحباط، وأعتقد أن شاعر الأغانى حسين السيد هو الذى أوغر صدر عبد الوهاب تجاهه، وقال فتحى بأن عبد الوهاب كان ينصت لحسين السيد ويسمع كلامه، لأن حسين السيد كان يعطى عبد الوهاب أغانيه مجانا، وكان يوفر له كل أنواع الطيور والفاكهة، ويوصلها إليه فى المنزل، حيث كان السيد تاجرا شاطرا فى الفاكهة والطيور.

ومهما كانت هذه الحكاية صحيحة أو مزعومة، فإن أحمد فتحى كان ممرورا، ولم يحظ بعد ذلك بمن يغنى له سوى السيدة أم كلثوم أنشدت له قصيدة «قصة الأمس»، التى لاقت استحسانا وذيوعا كبيرا بين المستمعين، هذه القصيدة التى يقول فى مطلعها:

(أنا لن أعود إليك

مهما استرحمت دقات قلبى

أنت الذى بدأ الملامة

والصدود وخان قلبى

فإذا دعوت اليوم قلبى

للتصافى.. لن يلبى).

وهناك قصيدة «فجر» التى لحنها وغناها رياض السنباطى بنفسه، كما أن هناك بضع أغنيات أداها بعض المطربين والمطربات الأقل شهرة من أم كلثوم وعبد الوهاب، ولم يكتب لها أى شهرة أو ذيوع.

وبعد حياة قاسية وظالمة دامت 47 عاما، مات أحمد فتحى فى فندق «كارلتون» الذى كان يقيم فيه، وكتبت صحيفة «المساء» فى 4 يوليو عام 1960، أى بعد وفاته بأيام قليلة، يقول الخبر: «تنعى الصفحة الأدبية للعالم العربى شاعرا كبيرا هو الأستاذ أحمد فتحى، الذى أضفى على الشعر جمالا ورقة وعذوبة.. مات وهو أشد إقبالا على الحياة.. عاش حياة شاعر بكل ما فيها من قلق وحيرة وتمزق وحب.. توقف القلب المرهف الذى خفق بحب الوجود سنوات طويلة»، وبعد أن استعرض الخبر مآثر الشاعر فى الترجمة والكتابة النثرية، طالب الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة والإرشاد القومى بأن تبادر بجمع مختلف آثاره الأدبية وإصدارها فى عدة كتب، ورغم أن أحمد فتحى له كتابات نثرية فريدة فى جمالها، فإن وزارة الثقافة لم تسمع أو لم تقرأ هذا النداء الذى مرّ عليه خمسة وخمسون عاما، فهل تستجيب الآن؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف