عباس الطرابيلى
سعود الفيصل.. نجم الدبلوماسية
ذكريات عديدة لى مع الأمير سعود الفيصل عميد دبلوماسى العرب والعالم كله.. إذ بحكم عملى محررًا لشئون البترول فى أخبار اليوم ـ من أواخر الستينيات ـ ثم فى أبوظبى.. التقيت الأمير سعود. حتى عندما بدأت علاقته بالبترول فى شركة بترومين السعودية للبترول بمجرد عودته من أمريكا التى درس فيها.
بدأت علاقتى بالأمير سعود عندما كنت أحضر اجتماعات منظمة الأوبيك فى مقرها القديم فى فيينا ـ وكانت تشغل طابقين فى مبنى كبير ـ وهو المقر الذى اقتحمه الإرهابى الشهير كارلوس وخطف وزراء الأوبيك وطار بهم إلى الجزائر، وأفرج عنهم، بعد أن حصل على الفدية المالية التى طلبها.
<< المهم كنت أراقب الأمير، وهو يجلس صامتًا، خلف الدكتور أحمد زكى يمانى وزير البترول السعودى، لا يتكلم إلا إذا طلب الوزير رأيه.. ومرة التقيت الملك الشهيد فيصل وسألته ـ وكنا فى قصر الملك فى مكة، لماذا وضعت ابنك الأمير مساعدًا، ووكيلا لوزير البترول.. فسألنى الملك: وما رأيك فى يمانى، قلت هو أكثر خبراء صناعة البترول فى العالم.. قال الملك هو كذلك. ولذلك دفعت إليه بابنى سعود لكى يتعلم وقالها بعبارة واضحة «دع الولد ـ يقصد سعود ـ يتعلم.. ثم لا تنسى أن البترول هو أساس السياسة العالمية.. ومن يتعلم فى مدرسة البترول يصبح خبيرًا سياسيًا.. عالميًا.. ومازالت كلمة الملك فيصل ترن فى أذنى «سيب الولد.. يتعلم» ولهذا كنت أتابع الأمير سعود فى كل اجتماعات الأوبيك.. والأوابيك «أى العربية» حيثما عقدت هذه أو تلك..
<< ثم اختاره والده الملك فيصل وزيرًا للخارجية، وهو نفس الموقع الذى كان يشغله فيصل نفسه، عندما كان وزيرًا لخارجية والده الملك عبدالعزيز آل سعود.. ومن هذا الموقع تابعته وهو يقود الدبلوماسية السعودية طوال عهود أربعة من الملوك.. سواء فى اجتماعات القمة العربية، أو اجتماعات دول مجلس التعاون الخليجى، الذى أنشىء فى أبوظبى عام 1981.. وتابعته فى فترات المد والانحسار العربى، وبالذات خلال الحرب العراقية ـ الايرانية من عام 1980 إلى 1988.. وكذلك كارثة احتلال صدام حسين ـ حاكم العراق ـ لدولة الكويت وكان دور سعود الفيصل من أبرز الأدوار، وهو ما لم تنسه الكويت أبدًا للسعودية، وللأمير سعود نفسه.
وكان قديرًا ـ فى اختيار كلماته ـ عندما كان يعقد المؤتمرات الصحفية عقب جلسات القمم العربية، أو قمم دول مجلس التعاون الخليجى. كان قادرًا على اختيار كلماته، التى توزن بالذهب، لأن كل ما يقوله يحسب عليه، وأيضًا فى قمة دول الأوبيك التى عقدت فى قصر الأمم بمدينة الجزائر عام 1975.
<< وتجلى دور ـ وعروبة ـ الأمير سعود الفيصل فى ثلاث قضايا حيوية الأولى ما يجرى فى سوريا حتى أن 4 ملايين سورى ترك أرضه وبلاده مهاجرًا، وكان رأى الأمير ـ والسعودية كلها ـ مخالفًا لدور روسيا والرئيس بوتين، وهل ننسى دوره للرد على رسالة الرئيس الروسى فى مؤتمر شرم الشيخ.. ثم قضية الحوثيين فى اليمن.. وكان الأمير أول من تنبه إلى مخاطر الغزو الإيرانى «الشيعى» إلى عتبات الأراضى السعودية فى الجنوب، وكيف رأى فيها محاولة لفرض حصار على السعودية بعد دور إيران الخبيث فى المنطقة الشرقية من المملكة ذات التواجد الشيعى هناك.. وكان موقف الأمير سعود وكشفه لأبعاد المخطط الإيرانى للوصول إلى المدخل الجنوبى للبحر الأحمر وراء فهم السعودية لمخاطر الزحف الإيرانى ـ الفارسى ـ الشيعى.
<< أما دوره الأخطر فهو فى موقفه المشرف من الثورة المصرية فى 30 يونية وكيف رأى أن العالم لا يمكن أن يتجاهل خروج أكثر من 30 مليون مصرى ضد تسلط الإخوان وحكمهم لمصر خلال العام الوحيد، الذى تحكموا فيه، فى مصر والمصريين.
فقد تحامل على نفسه ـ وكان جسده قد أصابه الوهن والمرض.. وطار إلى باريس بناء على طلب من الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز ليلتقى ـ فى قصر الاليزيه ـ الرئيس الفرنسى أولاند.. ويبلغه رسالة محددة، لا تحتمل أى تأويل، بأن السعودية لن تسمح بضرب هذه الثورة المصرية ـ ثورة 30 يونية ـ بل وقالها صراحة للرئيس الفرنسى، إن السعودية ستتكفل بتغطية كل ما تحتاجه مصر من دعم مالى وسياسى وبترولى، مهما كان الثمن.. بل إنه أبلغ الرئيس الفرنسى، أن صفقة الأسلحة الفرنسية للسعودية ـ وهى بمليارات اليورو، يمكن أن تغيُّر المملكة موقفها منها.. بناء على رد فعل السياسة الفرنسية.
<< ووصلت الرسالة السعودية ـ على لسان الأمير سعود ـ إلى مقر الإليزيه.. فانطلق الرئيس أولاند إلى مقر الجمعية الوطنية الفرنسية «البرلمان» ليعلن سياسة فرنسا «الجديدة» دعمًا لمصر الثورة.
<< ولا أجد إلا أن أقدم عزائى للسعودية: الشعب والحكومة تحت راية الملك سلمان.. وإلى أسرة الملك الشهيد فيصل.. ثم إلى الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة والوزير السابق.. وقبلها كان أميرًا لمنطقة عسير وصاحب فكرة مؤسسة الفكر العربى.. وبالمناسبة فإن الأمير خالد درس أيضًا فى برنستون الأمريكية، وهى نفس المدينة التى تعلم فيها الأمير سعود.. واستضافنى الأمير خالد فى أبها عندما كان أميرًا لمنطقة عسير لسنوات عديدة.
رحم الله عميد الدبلوماسية العربية، وأقدم وزير خارجية فى العالم الأمير الصامت إلا عن الحق: الأمير سعود الفيصل الذى بدأت معرفتى به منذ 43 عامًا.. رحمه الله وأهله ومحبوه يشيعونه اليوم إلى مثواه الأخير.