يستحق الممثل الكبير أحمد كمال هارون وقفة طويلة أبداها بالسؤال: لماذا لم يحقق هذا الفنان المكانة والمساحة الجدير بها في مجال الإنتاج الدرامي التلفزيوني والسينمائي؟؟ ممثل بهذه القدرة العريضة والعميقة في فن الأداء التمثيلي يستحق أن يكون حاضرا علي نحو كبير في الأعمال الدرامية علي شاشة التلفزيون والسينما.
سؤال آخر: هل توقف هذا الفنان الجاد وتدقيقه عند اختيار الأعمال التي تعرض عليه بين الأمور التي تحول دون انتشاره؟؟ ربما. فالأدوار القليلة نسبيا التي كانت سببا في لفت الأنظار إلي خصوصية أدائه وأسلوبه السهل الممتنع كممثل ظهرت من خلاله أعمال محترمة وممتعة وجادة. أذكر علي سبيل المثال دوره في فيلم "الكيت كات" مع المخرج داود عبدالسيد وفيلم "أحلي الأوقات" مع المخرجة هالة خليل وأدواره في مسلسلات "ذات" و"فرح ليلي" ودوره في "حارة اليهود" الذي يعرض حالياً والذي أتابعه بقدر كبير من الإعجاب بأدائه. وهو الدور الذي أثار السؤال الملح الذي بدأت به هذه المقالة.
أحمد كمال ممثل "مفكر" يؤدي الشخصية بذهنية عميقة ويكشف عما بداخلها بملامح وتعبيرات وصمت بليغ أحيانا وبقدر كبير من الصدق.
انه ممثل "مقتصد" إذا صح التعبير ومقل جدا في استخدام لغة الجسد. يستحضر المشاعر وما يموج من أحاسيس داخل صدر الشخصية التي يجسدها بأقل القليل من الحركة الظاهرة ولكنه يشعرك كمتفرج بقوة الانفعالات الداخلية المرتبطة بالحزن أو الغضب أو الإحباط والألم أو الرضا ويعكس ذلك بتعبيرات دقيقة علي الوجه توحي به بما يموج من انفعالات داخلية ترسم ملامح التجربة التي ينقلها والتي قد تبدو مؤلمة في بعض الأحيان ومثقلة بالمسئولية الإنسانية في أحيان أخري.
أحمد كمال في "حارة اليهود" يلعب شخصية "هارون" اليهودي الطيب في فترة معبأة بالتغييرات السياسية والاجتماعية. فهو التاجر حسن السمعة والأب المسئول عن ولد "أحمد حاتم" متعصب ومتعاطف مع اسرائيل وابنة ليلي "منة شلبي" تحب ضابطا مسلما. انه أيضاً اليهودي الواعي بعمق التناقضات وتعقيد المرحلة التي تدور فيها الأحداث وبصعوبة الأوضاع التي تحدق باليهود بعد إعلان دولة إسرائيل والحرب مع المصريين عام 1948 انه إذن اليهودي الحائر بين وضعه الذي أصبح مهددا كتاجر يعيش في "حارة اليهود" وفي فترة تشهد بزوغ حالة من المشاعر السلبية تتصاعد ضد اليهود بسبب الصراع مع اسرائيل وحائر أمام العداء ومشاعر الكراهية التي طفت في الحارة بعد ذهاب أولاده للعيش في اسرائيل.
الشخصية رسمها مدحت العدل بفيض مبالغ فيه من التعاطف والخصال الإيجابية.. وجسدها الممثل أحمد كمال بفهمه الواعي بهذه المتاهة والحيرة النفسية وأيضاً العجز عن مواجهة التحولات الجارفة للمرحلة والفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث.
أحمد كمال ممثل من النوع الصعب حسب ما أتصور بمعني انه يكره الاستسهال والفبركة ويقدر قيمة الدور الذي يلعبه وأهمية الانحياز والاختيار بالنسبة للفنان باعتباره مسئولاً عن قيمة ما يقدمه فهو ليس مجرد مؤد يقدم دوره علي "المسرح" ثم يرحل والمفارقة ـ حسب ما أعتقد ـ هذا الأداء الهادئ والنبرة المتواضعة مع هذا القدر الكبير من التدقيق. فهو لا يتهافت علي مسألة الانتشار حيث لا يعنيه الكم ولا يقبل بالتفاهة في الأعمال الفنية ويدرك إمكانياته وثقته بقدراته كممثل. فهو ربما لا تصلح ملامحه لدور "الجان" أو الفتي الأول ولكنه ممثل يمكنه أداء الشخصيات المركبة والصعبة بإجادة تامة وباستيعاب لجوهر الشخصية التي تسند إليه ولذلك تبقي الشخصيات التي يؤديها في ذاكرة المتفرج.
انه ممثل من نوع خاص. طبعه ليست شعبية من الممثلين. يمتلك كبرياء الفنان ووعيه وحسه الإنساني. وربما كان ذلك من بين الأسباب التي أبقته داخل إطار متميز رغم انه لم يحظ بما يكفي من الأضواء.
ولو قارنا بين أحمد كمال كممثل وبين كثير من الممثلين المنتشرين من نفس جيله نجد ان عدم انتشاره يعود إلي كونه "أستاذ" تعليم يجد في نفسه قدرة علي العطاء في موقع آخر ليس بعيداً عن دائرة الفن وأعني فن إعداد الممثل وتوجيهه وتربية أجيال من شباب الممثلين وبحيث يظل هو نفسه قدوة ومثلاً للفنان المتعالي علي الابتذال غير المتهافت علي التواجد أياً كان مضمون ما يقدمه وانه الممثل الذي يمتلك تواضع الواثق من إمكانياته وكبرياء الفنان المبدع!