ها هي الأيام تلف وتدور وأنا الآن في طريقي لماسبيرو. بعد أن ارتكبت الدولة المصرية خطأها الذي ربما وصل لحدود الجريمة بإلغاء وزارة الإعلام
ربما لا يعرف الكثيرون ممن يعملون في مبني الإذاعة والتليفزيون أن جاستون ماسبيرو مستشرق فرنسي وقع في حب مصر قبل وصوله إليها. وعاش حياته فيها مدافعاً عن آثارها ضد السرقات والتهريب. التي وجدت منذ أن عرف المصريون أن لهم آثاراً. واستخرجوها من باطن الأرض ووضعوها أمام الدنيا. عمل ماسبيرو مديراً لمتحف الآثار عندما كان موقعه في بولاق الدكرور. لم يتوقف اهتمامه بماضي مصر. لكنه حاول الإمساك بروحها المعاصرة عندما قام بجهد كبير في جمع أغنياتها الشعبية. باحثاً عن كل ما يجسد روح أهل مصر. إنه مثال للأجنبي الذي يأتي من آخر الدنيا. أتي من فرنسا ليعشق مصر أكثر وأعمق من أهلها.
ما دمنا ذكرنا ماسبيرو وقد فتح الله علينا ببعض المعلومات عنه. أدونها ليقرأها من يترددون علي المبني كل يوم. سواء من العاملين فيه. أو من يحملون مشاكلهم إليه. أو من يتحدثون عبر شاشاته وميكروفوناته. فالرجل مولود في 23 يونيو سنة 1846. ومتوفي في 30 يونيو سنة 1916. وجاء إلي مصر في 5 يناير سنة 1881. وكان عشقه لمصر هو الكلمة الأولي والأخيرة في تجربة عمره كله.
منذ سنوات لم آتِ إلي ماسبيرو. ربما كانت آخر مرة عندما كان صديقي أسامة الشيخ رئيساً لاتحاد الإذاعة والتليفزيون قبل أن يتعرض لظلم يفوق ظلم الحسن والحسين. لكن الرجل خرج مرفوع الرأس كالأهرامات من كل المحن التي مر بها.
لست في حاجة للتذكير بأنه في الفترة من 25 يناير حتي منتصف يونيو 2013 كان ماسبيرو هدفاً لكثير من المظاهرات. إما لأهمية المكان. أو لمحاولة ضرب صوت مصر الذي كان صوت العرب وصوت المسلمين في مقتل. لدرجة أن تأمين المبني كان يتقدم كل المهام الأخري التي يجب القيام بها.
لن أناقش الصواب والخطأ فيمن تظاهروا أمام ماسبيرو. ومن حملوا همومهم وآلامهم ومشاكلهم التي بدت بدون حل إلي ماسبيرو. التاريخ هو الذي سيحكم عليهم. وهذه الفترة المضطربة من عمر ماسبيرو يجب أن يدون كل ما جري فيها. وأن تدرسه كليات الإعلام في جامعاتنا. وأن تتوقف أمامه لأن عبر التاريخ مهمة حتي لا تتكرر خيباته ومشاكله في المستقبل. ويبقي لنا المنجز الذي يجب أن نخرج به منه.
ها هي الأيام تلف وتدور وأنا الآن في طريقي لماسبيرو. بعد أن ارتكبت الدولة المصرية خطأها الذي ربما وصل لحدود الجريمة بإلغاء وزارة الإعلام. امتثالاً لدستور لم ينفذ كل ما جاء فيه حتي الآن. ولم يعرفوا أن إلغاء الوزارة يعني حرمان مصر من صوتها وعملية بتر للسانها ومنعها من أن تكون مصر.
ضحكوا عليهم وقالوا لهم ان وزارات الإعلام تعبير عن شمولية الدولة. وأن كل العالم المتقدم والمتمدين لا توجد فيه وزارات إعلام. ومن قالوا هذا الكلام كذباً وافتراء يعرفون أن وزارات الإعلام موجودة في كل دول العالم. وإن كان ذلك بمسميات أخري.
عندما كنت في الطريق إلي ماسبيرو لمقابلة الصديقين: عصام الأمير، وعلي عبد الرحمن. وكان مفترضا أن يكون معنا سيد فؤاد. لكنه سافر إلي قنا ضمن قوافل المثقفين الذين ذهبوا إلي الصعيد لكي يواجهوا التطرف هناك.
وصلت مثقلاً بالجراح من متابعتي لكل ما يجري الآن في الدولة المصرية من مناقشات لقانون إنشاء كيانات جديدة تدير الإعلام المصري في ظل غياب الوزارة. وكانت هناك فكرة عودة الوزارة. ولكن التطورات التي جاءت لاحقاً من اغتيال النائب العام وما جري في سيناء رفعت الأمر من دائرة الاهتمام وأدخلته التأجيلات التي ربما كانت بلا نهاية.
مع أن مصلحة الوطن ومعركة الوطن التي تدور في إطار الكلمة والمعتقد تستلزم أن يكون لدينا إعلام الدولة المصرية. لا أقول إعلام الحكومة. لأنه لمجرد أنه إعلام الحكومة. ربما يعرض عنه المشاهدون. وأنا أتحدث تحديداً عن ماسبيرو. وليس عن مدينة الإنتاج الإعلامي التي تبث بالإعلام الخاص. وهو مطلوب ودوره لا يقل أهمية عن الإعلام القومي لكل المصريين. بشرط الالتزام بثوابت الوطن. وعدم الخلط بين الثوابت التي هي ثوابت. ويجب أن تبقي ثوابت. وبين المتغيرات التي تتغير من لحظة لأخري.
المجالس أمانات. والكلام كله دار حول خروج الإعلام المصري إلي النهار. والخروج إلي النهار عنوان كتاب من أهم كتب التراث المصري القديم. نسميه من باب الخطأ: كتاب الموتي. مع العلم أن الخروج إلي النهار هو العنوان الأدق للكتاب المهم للغاية الذي يشكل عنوانه المطلب الجوهري أمام الإعلام المصري الآن.
فمتي يخرج الإعلام المصري للنهار المصري؟ فمصر في أمس الحاجة لإعلامها.