مع أن المبدأ التشريعي معروف للكافة، وهو أن القوانين الجنائية الجديدة لا تسري بأثر رجعي، وهو ما يعني ـ ببساطة ـ أن القانون المعروف باسم «مكافحة الإرهاب» لن يسري علي المحاكمات التي جرت أو تجري أو أحيلت قبل أن يصدر القانون الجديد
لا أريد أن أظلم أحدا، ولا أن أصدم الرأي العام، حين أقول إن قانون مكافحة الإرهاب ـ المقترح من الوزير أحمد الزند ـ لا يكافح الإرهاب، ولا تنطبق أحكامه علي محاكمات جرت وتجري للمعزول مرسي وقيادات الإخوان، ولا حتي علي الإرهابي عادل حبارة المعترف بجريمة قتل الجنود المصريين، وألغت محكمة النقض الحكم بإعدامه، وقررت إعادة محاكمته أمام دائرة أخري لمحاكم الجنايات.
قانون الزند ـ في حقيقته ـ يكافح الدستور لا الإرهاب، ويدوس أحكام الدستور في غلظة وخفة مدهشة، وكل المواد المتعلقة بالصحافة والإعلام فيه مجافية للدستور، وفي عدة مواد بينها الماة (33)، التي جاوزت كل حد معقول أو مقبول في الشذوذ التشريعي، حيث كانت تقرر ـ قبل تعديلها صوريا ـ عقوبة الحبس لسنتين لكل من ينشر معلومات عن أعمال إرهابية علي نحو يخالف البيانات الرسمية، وهو ما قد يعني أن واضع التشريع لم يقرأ الدستور أصلا، والدستور هو عمدة القوانين وأمها وأبوها، وقد وافق الشعب عليه في الاستفتاء بنسبة تقارب الإجماع، ويقرر الدستور في المادة (71) بوضوح وبالنص أنه «لاتوقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية»، ولا يستثني الدستور من إلغاء الحبس سوي «الجرائم المتعلقة بالتحريض علي العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد»، بينما الجريمة التي يبتدعها قانون الزند لا أصل لها في دستور ولا في قانون، وتصويرها كجريمة يعني تجريم عمل كل الصحف وكل الإذاعات وكل التليفزيونات وكل المواقع الإلكترونية، فالخبر والسبق إليه هو أساس مهنة الإعلام، وقصر استقاء الخبر علي البيانات الرسمية إن وجدت، لا يعني سوي التعطيل التام لعمل وسائل الإعلام المصرية، وعلي ظن أن التعطيل يحصن الرأي العام من قراءة أو استماع أو مشاهدة أخبار قد لا تكون دقيقة، أو مخالفة للبيانات الرسمية التي يتأخر صدورها في العادة، وقد لا تكون هي الأخري صحيحة تماما، بينما تترك عيون وآذان الرأي العام نهبا وفريسة لما تنشره وسائل الإعلام غير المصرية، والمتاحة دونما قيود عبر السماوات المفتوحة، أو في الفضاء الإلكتروني بضغطة زر أو لمسة يد، فالدنيا تغيرت كثيرا، ولم تعد تصلح معها تشريعات أهل الكهف، وما من نتيجة لتطبيق المواد القانونية الشاذة سوي إعدام وسائل الإعلام المصرية، وتحويلها إلي نشرات رسمية صفراء، لا تنشر خبرا بغير إذن كتابي، ولا صورة إلا بتصريح رسمي، ويحكم عليها بالتخلف الأبدي فوق سوءاتها المعروفة المفزعة، ومع آثار سلبية جارفة علي أبسط مقتضيات الأمن القومي والأمن الإعلامي، والإساءة لمقام الرئاسة لو جري توريطها في إصدار القانون المعيب، والذي لا تبدو له من ضرورة حالة، خاصة مع التحصين القانوني القائم بالفعل لأخبار القوات المسلحة وجهاز المخابرات العامة.
والمصيبة الأكبر في قانون الزند، فوق الافتئات علي الإعلام ودهس الدستور، المصيبة الأكبر في الضجة الاحتفالية المصاحبة له، والتي تنطوي علي خداع ظاهر للرأي العام، وتصور للناس أنه يسهل تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة بحق المعزول مرسي وقيادات جماعة الإخوان، أو أنه يغلظ العقوبات في التهم الموجهة إليهم وصولا بها إلي الإعدام، مع أن المبدأ التشريعي معروف للكافة، وهو أن القوانين الجنائية الجديدة لا تسري بأثر رجعي، وهو ما يعني ـ ببساطة ـ أن القانون المعروف باسم «مكافحة الإرهاب» لن يسري علي المحاكمات التي جرت أو تجري أو أحيلت قبل أن يصدر القانون الجديد، وتسري القاعدة علي مسائل القانون الكبري من نوع إنشاء محاكم خاصة بالإرهاب أو تعديل قانون الإجراءات الجنائية في قضايا بعينها أو إتاحة تصرفات لا يعاقب عليها لجهات الإدارة والشرطة، والدستور المصري ـ المستفتي عليه ـ حاسم قاطع صريح في نصوصه، فالمادة (225) من الدستور تقول بالنص «تنشر القوانين في الجريدة الرسمية خلال خمسة عشر يوما من تاريخ إصدارها. ويعمل بها بعد ثلاثين يوما من اليوم التالي لتاريخ نشرها»، وتضيف المادة ذاتها أنه «لا تسري أحكام القوانين إلا علي ما يقع من تاريخ العمل بها»، وفي الباب الرابع المعنون «سيادة القانون»، يقول الدستور في المادة (95) ما يلي بالنص «العقوبة شخصية. ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء علي قانون. ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي. ولا عقاب إلا علي الأعمال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون»، ويضيف الدستور في المادة (97) نصا قطعيا يقول «يحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي. والمحاكم الاستثنائية محظورة»، ومقتضي نصوص الدستور المذكورة ـ وغيرها مما لم نذكر ـ ظاهر جدا، وهو أن محاكمات مرسي وقيادات الإخوان لن تتأثر بتغليظات القانون الجديد، وأنه بوسع دفاع مرسي وقيادات الإخوان أن تطعن بعدم دستورية نصوص القانون الجديد لو جري تطبيقه، وهو ما يطيل أمد التقاضي لسنوات إلي حين الفصل من قبل المحكمة الدستورية، ثم أن مصير حكم إعدام مرسي وقيادات الإخوان سيظل كما كان في يد محكمة النقض، والتي تلغي في العادة أغلب أحكام محاكم الجنايات، أو تنزل بها إلي درجة العقوبة الأدني لو نظرت القضية كمحكمة موضوع، وهو ما سيتضح جليا للناس بعد صدور القانون المعيب، فلن يجري تسريع التنفيذ في أحكام الإعدام كما يروجون، وسوف تتطاول مدد نظر القضايا في محكمة النقض لقلة عدد قضاتها، وربما لن تؤيد محكمة النقض أحكام الإعدام في حق مرسي وقيادات الإخوان بالذات.
وبالجملة، لن يكسب البلد شيئا من صدور ما يسمي «قانون مكافحة الإرهاب»، ولن تصبح العدالة ناجزة كما يتوهمون ويوهمون الناس، ولن تعمل مشانق إعدام الإرهاب ببطء أقل وبأعداد أكبر، وسيظل القضاء العسكري هو وحده المصحوب بأحكام سريعة ونافذة المفعول، ومن الأفضل تحويل قضايا العنف والإرهاب المباشر إليه لتحقيق الردع الخاص والردع العام، ودونما مزيد من العبث في النظام القضائي المدني علي طريقة قانون الزند.