هل جيلنا هو وحده من يحن إلي زمان وأيام زمان. وفي مقدمتها أعياد زمان؟ ولذلك يتهمنا البعض بأننا نري أن ليس في الإمكان.. أبدع مما كان.. أم أن أيام الطفولة هي أفضل أيامنا.. تري: ما هي الإجابة؟
أنا- نفسي- أحن إلي أيام زمان، رغم ندرة ما كان فيها من المسليات وفرص اللهو والهناء.. ولكننا جيل كان يقنع بالقليل.. وكنا سعداء بهذا القليل..
<< مثلاً مازالت في ذاكرتنا كيف كنا نستقبل العيد.. وكيف نستعد، وكل حسب موقعه. الأب يوفر مستلزمات العيد من مواد خام لصنع الكعك وتوابعه وملابس وأحذية العيد.. والأم تجمع حولها بنات الأسرة، وبنات الجيران، يساهمن جميعاً في صنع الكعك.. وكم كانت سعادة الأطفال وهم يحملون «صاجات» الكعك والبسكويت والغريبة ذهاباً وعودة إلي الأفران البلدي.. ويسهرون حتي الفجر لهذه المهمة غير العادية، التي تحدث مرة واحدة، علي مدار العام..
وكيف كان «المزين» أي الحلاق، وتأملوا في معني الكلمة «المزين» الذي يقوم بتزيين رأس الواحد منا، أي تجميله.. ومنا من كان يسهر عند الترزي استعداداً واستعجالاً له لكي ينتهي من «خياطة» القميص أو البنطلون أو البدلة الشورت. وعلي البيعة يصنع له الترزي «طاقية» من قماش البيجامة!!
<< ثم العودة، استعداداً لعملية «حمومة العيد» لينام الطفل منا ولكنه ينام يحلم بما سوف يعمله غدا، أول أيام العيد.. ويا سلام علي حمومة العيد «بالصابونة أم ريحة» وكان أشهرها نوعين: شم النسيم.. واللوكس.. وينام الواحد منا وهو يحتضن حذاءه اللامع الجديد وقميصه الأبيض سادة أو مقلم.. والبنطلون الشورت لمن هو دون العاشرة من عمره.. والطويل لمن تجاوزت سنه، هذه العشرة!! ينام وهو يحلم بحجم ما سيحصل عليه من عيدية من الجدين والأب والأعمام والأخوال.. أي من كبار العائلة وكل حسب مقدرته..
<< وكان يوم العيد يبدأ بصلاة العيد في المساجد.. وترديد أدعية العيد وما أحلاها من كلمات تهز وجدان الكل.. والكل يردد: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً..
وما إن تنتهي الصلاة حتي ينطلق كبار السن إلي المقابر.. لزيارة الراحلين والدعاء لهم.. فالعيد يجب أن يبدأ بذكر من رحلوا من الأعزاء.. ثم ننطلق إلي بيوت كبار العائلة.. نجمع العيدية.. وكانت إما من العملات الفضية: الريال الفضة «بتاع» الملك فؤاد أو أخيه السلطان حسين كامل.. أو البريزة.. والورقية وكانت أيامها من فئة خمسة قروش وعشرة.. ولم يكن قد شاع بعد ورقة الخمسة والعشرين قرشاً، أي ربع الجنيه.. وكنا نجمع كل فئة مع بعضها ليسهل لنا عدَّها وحساب كم جمعنا من عيديات.. ثم ننتظر قدوم المسحراتي وكان أشهرهم عندنا بدمياط «عم سليمان» الذي كان يتحفنا طوال شهر رمضان بروايته لنا للسيرة المحمدية العطرة.. وبعد أن فقد بصره في سنواته الأخيرة كانت تمسك ابنته بيده.. أو من طرف جلبابه وهو يدق علي «البازة» أي طبلته النحاسية وأحد أبنائه يسحب جملاً زينة أجمل زينة ويتدلي من جانبيه «الخرج الشهير» ليضع فيهما ما تجود به نفوس الناس ممن تعود إيقاظهم بصوته الرخيم طوال الشهر الكريم..
<< ولكن الفرحة الكبري كانت تبدأ بالتجمع مع صبية الحارة أو الحي لننطلق جميعاً إلي «حارة العيد» حيث الألعاب التي نعشقها ولم نكن نعرف غيرها مثل الساقية القلابة والفلوكة التي تطير في السماء أو نركب الساقية الدوارة فوق ظهر الخيل.. أو نركب عربات الكارو جماعات.. وما أن تلتقي عربتان حتي ينطلق من فيهما، أو عليهما، والكل يهتف «هرش.. يا هرش».
وننطلق نأكل أطباق الطرشي ونشرب مياهه الحراقة المشطشطة والطبق الواحد بمليم!! والطريف أننا كنا نتبع ذلك بشرب أي شربات.. مجرد مياه بسكر، حمراء اللون من الصباغة الحمراء.. المهم نخفف حدة الطرشي ومياه الطرشي والله يرحم «عم بلية» أشهر بائع لهذا الشربات وكنا نهزأ به ونحن نهتف «ميَّه.. بتفته.. يا بلية» والتفته هي الصبغة الحمراء.. ويا سلام علي الباذنجان المحشو بالشطة والثوم.. وهذه التفته الحمراء!! لزوم فتح الشهية..
<< ولا نعرف كم أنفقنا في حارة العيد- طوال أيامه التلاتة- المهم أن الأهل يتركوننا نلهو كما نشاء.. ونعود قبل العصر لنأكل الغداء.. وغالباً ما يكون من الفسيخ، السهيلي، شديد اللذة.. ثم نلقي في بطوننا بكميات لا نعرف عددها من الكعك وتوابعه.. لننطلق بعد ذلك وسريعاً إلي شاطئ البحر عند دمياط. لنستأجر فلايك التجديف. وهي زوارق صغيرة. والساعة بخمسة قروش، نذهب جنوبا إلي قرب سد دمياط.. وشمالاً إلي ما بعد جمرك دمياط.. إلي أن تغرب الشمس..
لنبدأ مشوار السهرة في سيرك عاكف أو الحلو نستمتع ونحن نجلس في أعلي مكان- فوق الدكك الخشبية- بترويض الأسود والنمور.. وألعاب البهلوان والأكروبات.. وغالبا ما تمتد سهرات السيرك إلي ما بعد منتصف الليل..
ونعود «جثثنا هامدة» من شدة التعب لننام استعداداً لليوم الثاني وكان هو يوم السينما. وكان في دمياط ثلاث دور للسينما: اللبان، ومحمد علي، ودمياط الجديدة.. وكانت كلها تتسابق لتعرض علينا ما نحب من أفلام وحلقات مثل: رابحة. وعنتر وعبلة. وطرزان، وزورو، وفومانشو الجبار.. وبالطبع ندخلها بطلوع الروح وأحيانا تقطيع الهدوم، من شدة الزحام.
بالذمة حد ينسي كل ده.. أنا نفسي أحن لهذه الأيام التي عشتها منذ أكثر من 70 عاماً.. وما ألذ أيام حارة العيد، في دمياط. تري هل ما زالت تجري بنفس الطقوس؟!