- الواقعية هى مدرسة نظرية فى العلاقات الدولية، تتلخص فى جوهرها فى المبدأ السياسى القائل بأن «من يملك القوة يملك الحق»، وتعود هذه النظرية لتاريخ بعيد، إذ ظهرت فى كتاب تاريخ الحرب البلوبونيزية لثيوكيديدس، وتوسعت فى كتاب الأمير لمكيافيللى الذى يرى أن «الغاية تبرر الوسيلة»، وتبعه آخرون مثل توماس هوبز الذى يرى أن «القوى هو الذى يحدد الخير والشر»، وسبينوزا الذى يرى أن «كل فرد يملك من الحق بمقدار ما يملك من القوة». وقد اعتمدت نظرية الواقعية على مفاهيم خاصة لفهم تعقيدات السياسة الدولية وتفسير السلوك الخارجى للدول، لعل أبرزها «الدولة، القوة، المصلحة، العقلانية، الفوضى الدولية، التقليل من دور المنظمات الدولية، الاعتماد على الذات، هاجس الأمن والبقاء».
وطبقاً لنظرية الواقعية السياسية فإن الأمة لا يسعها إلا أن تقدّم مصالحها على مصالح الأمم الأخرى، وعليها السعى وراء مصالحها الخاصة مهما كانت الحالة الفعلية للشئون الدولية، فالأمم نفعية بالضرورة، ولا يمكنها صياغة السياسة الخارجية سوى فى إطار ما يمكن أن تجنيه، حتى عندما تقدم أمة دعماً لدولة جوار فإن هذا حتماً يكون لدوافع نفعية لدى الأمة المانحة، ومن ثم فإنه لا مجال لإدخال المبادئ الأخلاقية إلى الشئون الدولية. فى المكتب البيضاوى عام 1973 قال وزير الخارجية هنرى كيسنجر ذو الأصول اليهودية للرئيس الأمريكى تعليقاً على مطالبات لبعض أعضاء الكونجرس بالضغط على الاتحاد السوفيتى من أجل السماح لليهود الروس بالهجرة: «لنواجه الأمر، هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتى ليست هدفاً للسياسة الأمريكية، وحتى لو قادوا اليهود إلى غرف الغاز فى الاتحاد السوفيتى فإن ذلك ليس شأناً أمريكياً، ربما كان ذلك شأناً إنسانياً»، فهو لا يبالى بأن يساق يهود الاتحاد السوفيتى إلى غرف الغاز، إذا كانت المصلحة الأمريكية تقتضى السكوت عن ذلك.
وبنفس المنطق نفهم الاتفاق النووى الإيرانى، وغضّ الحكومات الغربية الطرف عن الكثير من سياسات إيران الإجرامية لزعزعة استقرار المنطقة، وتدخلها السافر فى الشئون الداخلية لجيرانها، يقول الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات السعودية السابق عن الاتفاق النووى الإيرانى: «يرى نقادٌ فى الإعلام وفى السياسة أن الاتفاق النووى الذى عقده الرئيس باراك أوباما مع إيران هو نسخة طبق الأصل عن الاتفاق النووى الذى عقده الرئيس الأسبق بيل كلينتون مع كوريا الشمالية، إلا أننى، وبكل تواضع، لا أتفق مع هذا الرأى، فالرئيس كلينتون اتخذ قراره آنذاك على أساس تحليل استراتيجى للسياسة الخارجية الأمريكية، وعلى معلومات استخبارية سرّية، على رغبته ونواياه الحسنة لإنقاذ شعب كوريا الشمالية من مجاعة تسببت بها قيادته، واتضح بعد ذلك أن ذلك التحليل الاستراتيجى للسياسة الخارجية كان خاطئاً، إلى جانب فشل استخباراتى كبير، لو عرف به الرئيس كلينتون قبل اتخاذه قراره لما اتخذه، وأنا واثق تماماً من ذلك، أما الرئيس أوباما فقد اتخذ قراره بالمضىّ قدماً فى الصفقة النووية مع إيران، وهو مدركٌ تمام الإدراك أن التحليل الاستراتيجى لسياسته الخارجية، والمعلومات الاستخبارية المحلية وتلك الآتية من استخبارات حلفاء أمريكا فى المنطقة لم تتنبأ جميعها بالتوصل إلى نتيجة الاتفاق النووى نفسها مع كوريا الشمالية فحسب، بل تنبأت بما هو أسوأ، إلى جانب حصول إيران على مليارات من الدولارات، فالفوضى ستسود الشرق الأوسط الذى تعيش دوله حالة من عدم الاستقرار، تلعب فيها إيران دوراً أساسياً.
وبالتالى، السؤال الذى يجب طرحه هو: لماذا يصر الرئيس أوباما على عقد مثل هذه الصفقة رغم أنه يعرف ما لم يعرفه الرئيس كلينتون عندما عقد صفقته مع كوريا الشمالية؟ ليس الأمر بالتأكيد أن الرئيس أوباما ليس ذكياً بما فيه الكفاية، ولكن لأنه ذكى بما فيه الكفاية، وأرى أن السبب الحقيقى وراء عقد هذه الصفقة هو أن الرئيس أوباما صادق ومتصالح مع نفسه، ولأنه مقتنع تماماً بأن ما يفعله هو الصحيح، وأعتقد أنه يرى أن كل ما يمكن أن يكون كارثياً بسبب قراره هذا هو ضرر جانبى مقبول، لكن من أكون أنا لأخرج بمثل هذا الاستنتاج العميق؟
لكن ثقوا بى حين أقول إن سياسات الرئيس أوباما بشأن الشرق الأوسط عموماً وسوريا والعراق واليمن بصفة خاصة فتحت عيوننا على شىء لم نكن نتوقعه منه ويمكن مناقشتها فى وقت آخر، أما الآن وبكل تأكيد، أنا أكثر اقتناعاً من أى وقت مضى بأن صديقى العزيز الثعلب القديم هنرى كيسنجر، كان مصيباً حين قال: «على أعداء أمريكا أن يخشوا أمريكا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر».. فى النهاية إن الناس فى منطقتى يتوكلون على الله ويعززون قدراتهم وتحليلهم للوضع بالتعاون مع الجميع، باستثناء حليفنا الأقدم والأقوى، هذا يفطر القلب، إلا أن الحقائق مُرّة، ولا يمكن تجاهلها.