إذا كان فن الزجل يعاني الآن انحساراً في معظم الأقاليم المصرية. فإنه يشهد تألقاً واضحاً في إبداع الزجالين السكندريين. نحن نستطيع أن نتعرف لأهم المعالم في فن الزجل. بداية من عبدالله النديم. ثم في قصائد بيرم التونسي. وامتداداً في قصائد السيد عقل والكمشوشي ومكيوي وخطاب وكامل حسني وغيرهم. فالأجيال التالية.
قرأت لكامل حسني في "البعكوكة". كنت من قرائها الدائمين. جذبتني إليه لغته السهلة. والموحية. وافادته من التراث والموروث الشعبي. التقيته للمرة الأولي في انحناءة ميدان محطة الرمل إلي شارع كلية الطب. مال علي صديقي الصحفي الراحل سمير عبدالمجيد. عرف كل منا باسم الآخر. كانت محاولاتي في الكتابة مقصورة بيني وبين نفسي. أقرأها علي القلة من الأصدقاء "عبدالمجيد واحد منهم" ثم أضمها إلي محاولات سابقة في درج مكتبي. ميزته ــ في لقاءات تالية ــ بقامته الطويلة. وبشرته البيضاء المشربة بالحمرة. وعينيه الملونتين. وتصرفاته التي تنطوي علي ثقة.
لطبيعتي الانطوائية. أو لنسمها طبيعة غير اجتماعية. فقد تركت للمصادفات تدبير لقاءات تالية بكامل حسني. عرفت انه يجلس ــ كل مساء ــ في القهوة التجارية المطلة علي الكورنيش. ما بين المنشية ومحطة الرمل "صدر له في 1988 ديوان "ع القهوة التجارية"". ثم نقل جلسته اليومية إلي قهوة فاروق. علي بعد خطوات من بيتنا في شارع إسماعيل صبري. لم يكن بوسعي ـــ حتي أن أتعرف إليه عن قرب ـــ إلا أن أقصد مجلسه في قهوة فاروق. أهملت ـــ في عودة إلي الإسكندرية ـــ رفضي للجلوس علي المقاهي. وسألت عنه جرسون القهوة. أشار إليه في زاوية المكان. من حوله أصدقاؤه. حدّست انهم مبدعون. اعتدت رؤيته في سيري قرب القهوة. اكتفي بالتحية عن بعد. وأمضي.
كان حرصي علي زيارة بيت الطفولة والنشأة في شارع إسماعيل صبري. تماهيه زيارتي لقهوة فاروق في الشارع نفسه. أجلس إلي كامل حسني. يعرف اني ما ترددت علي القهوة إلا لهدف محدد. أن أسأله. وأناقشه وأتعرف إلي جوانب في الحياة السكندرية. ربما لم يتح لي معرفتها من قبل. وكان الرجل يفسح لي ـــ بالفعل ـــ عالماً بلا آفاق. تكوينات مظاهر الحياة في مدينتي من خلال رحلة. تمازجت فيها الوظيفة داخل الميناء. والصداقات الكثيرة. والموهبة التي تحسن الالتقاط. والتعبير. ومع ان كامل حسني أمضي سبعة عشر عاماً في السويس. مدينة مولده. فإن الإسكندرية ظلت محور اهتمامه الوجداني والفني إلي آخر العمر. عمّق من هذه العلاقة انه اختار الزجل ـــ فن الثغر الأجمل ـــ تعبيراً عن موهبته. واحتل مكانة متفوقة بين شعراء الإسكندرية الكبار. ممن احتفظوا لفن الزجل باستمراره وتألقه. بعكس بقية الأقاليم المصرية ـــ والقاهرة من بينها ـــ والتي خفت فيها صوت الزجل. إلي جانب الأصوات الغالبة لشعراء العامية المصرية.
إذا لم يكن العمر قد طال بعبدالله النديم ليرشح بيرم التونسي كي يأخذ مكانة متفوقة في فن الزجل. فإن التونسي رشح كامل حسني لخلافته. في حوار مع "الأهرام" "1964" وأكد انه سوف يتفوق علي من قبله. ومن بعده أيضاً. وفي رأي الدكتور حسن ظاظا إن كامل حسني فنان يعرف ما يريد في الشكل والمضمون جميعاً. يغلف لك الجمال في أبهي ما تشتهيه. وكأنما وجده علي طريقه عفواً. دون طلب أو تعب. بحيث يأتيك صافياً نقياً. لا تشم فيه العرق. ولا تسمع فيه الزفير. "يضيف صديقي الدكتور محمد زكريا عناني: إن انتاج كامل حسني غزير ومتنوع ومتدفق. ولو أردنا أن نستشهد بشئ منه. لوجدنا أنفسنا أمام عشرات القصائد النابضة بالفن والحياة.