لأسباب مفهومة.. كان الاحتفال بذكري ثورة يوليو 1952 هذا العام أعلي صوتاً.. وكان حضور قائد الثورة جمال عبدالناصر أكثر وضوحا من كل الأعوام الماضية.. ومن الغريب ان أكثر من تغزلوا في عبدالناصر هذه الأيام هم رجال مبارك وكتاب مبارك الذين كانوا في الماضي يظهرون وداً أكثر للسادات لأنهم كانوا يعرفون ـ ولو بالإشارة ـ ان مبارك يميل أكثر إلي السادات ويسير علي سياساته.
لا يستطيع أي منصف أن يجادل في أن ثورة 23 يوليو 1952 التي بدأت كحركة للجيش ثم تحولت إلي ثورة بالتفاف الشعب حول أهدافها قد قدمت للمصريين الكثير من الإنجازات التاريخية مثل الإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي ومجانية التعليم.. ولا يستطيع أي منصف أن يجادل في ان جمال عبدالناصر كان زعيماً وطنياً مخلصاً لوطنه ولأمته.. وكانت بوصلته القومية ناضجة وصحيحة.. لكن كان لعبدالناصر أيضاً سلبيات كبيرة تكاد تضارع إنجازاته الكبيرة.. ومن أهم هذه السلبيات تغييب الديمقراطية وتغليب أهل الثقة علي أهل الخبرة وتسميم المناخ السياسي بالاستبداد وفرض الرأي الواحد والفكر الواحد.. وهو ما حوله إلي زعيم أوحد وديكتاتور.. وحرم مصر من أن تنعم بتطبيق البند السادس من أهداف الثورة الذي ينص علي إقامة حياة سياسية سليمة.
وقد أدي هذا الإخفاق إلي نتائج وخيمة علي مصر كان في مقدمتها نكسة يونية 1967 وتفشي الفساد في "دولة المخابرات" وانتشار مراكز القوي.. وهو ما بدأ عبدالناصر نفسه في تصحيحه في "بيان مارس" معبراً عن دهشته من الهوة السحيقة التي وصلت إليها البلاد.
وفي مرحلة تالية تم الانقلاب تماما علي سياسة عبدالناصر وفكر عبدالناصر علي مدي حوالي 40 عاما وتم تشويهه وتشويه سياساته.. وتراجعت مصر عن التصنيع الوطني ومجانية التعليم وانسحبت من محيطها القومي ومن أفريقيا واتجهت إلي أمريكا والغرب.. وصار العدو الاسرائيلي هو "صديقي بيجين".
وكان واضحا ان أكثر من شوهوا عبدالناصر هم الذين نافقوه وصنعوا منه إله العصر ونبي الزمان.. عبدالحكيم عامر الذي قال "عقمت النساء أن تلد مثل عبدالناصر.. فعبدالناصر لا يولد إلا مرة واحدة" هو نفسه الذي قال فيه ما لم يقله مالك في الخمر عندما اختلفا بعد النكسة.. والسادات الذي كتب "يا ولدي هذا عمك جمال" هو نفسه الذي سار علي خط عبدالناصر بأستيكة.
ومن أراد أن يعرف حقيقة العلاقات التي كانت تربط رجال الثورة.. ورؤيتهم الحقيقية لقائدها عليه أن يقرأ مذكراتهم التي كتبوها في أواخر أيامهم.. عندما تركوا السلطة وزهدوا في المناصب.. وسوف يقف علي اعترافات خطيرة بالأخطاء التي ارتكبوها في حق أنفسهم ووطنهم وشعبهم وفي حق عبدالناصر نفسه عندما حولوه من زعيم وطني محبوب لديه نيات حسنة طيبة إلي ديكتاتور مستبد ينكل بخصومه السياسيين وبكل من يعارضه.
هذا الكلام يجب أن يقال بقوة هذه الأيام في إطار عملية تقييم موضوعية وشاملة لإيجابيات وسلبيات ثورة يوليو 1952 وزعيمها.. بدلاً من موجة التهييس السياسي الذي يعيدنا مرة أخري إلي مهرجانات الطبل والزمر.. ويحول ذكري الثورة إلي مولد شعبي للنفاق سرعان ما ينفض عن كارثة أو كوارث.
ثم إن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلي الوراء.. وما كان يحدث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لا يمكن أن يحدث اليوم.. وإلا فسوف يكون علينا أن نبدأ المشوار ثانية من نقطة الصفر.
يجب أن نتعلم من أخطائنا فلا نكررها.. والأمر لا يحتاج منا غير يقظة الضمير.. فقط يقظة الضمير.