المساء
محمد جبريل
26 يوليو 1952
صحا علي طلعات الطائرات الحربية في سماء المدينة منذ الصباح. رأي - قبل الفجر - طابوراً طويلاً من الدبابات يتجه إلي سراي رأس التين. هل يبين الأفق عن جديد اختفت توقعاته؟
لم يكن ثمة ما يعلن عن الثورة سوي بيانات الراديو والأغنيات الوطنية والدبابات المتناثرة في الميادين.
أحس بغير المألوف في اقترابه من سراي رأس التين. الترام يعود في انحناءة الطريق الي السراي. حشود من الناس شكلوا حائطاً ممتداً من رصيف الكورنيش الي محطة الترام النهائية. تداخلت الكلمات. واختلطت. وتشابكت. وهمست. وعلت. داخلها نداءات وضحكات ورنات سخرية وتعليقات مدغمة. تبين خلف الحائط البشري ثلاثة صفوف من الجنود. حملوا البنادق والرشاشات. عزلوا السراي بمسافة تمتد من قبل الحديقة الواسعة. إلي الشاطيء المطل علي الميناء الغربية. خلت المساحة الي السراي التي أغلقت أبوابها نوافذها. ومبني الحرس الملكي المجاور. وقف فوق سطحه جنود. في أيديهم مدافع رشاشة وبنادق. حديقة السراي خالية. صامتة. حتي الأشجار المتناثرة لفها سكون. والمتحف البطلمي المجاور أغلق أبوابه. ومنع كردون الجنود المرور الي نهاية خط الترام ومستشفي رأس التين. والتف القصر الصغير - علي ناصية الطريق المفضي الي محطة الترام النهائية بالسكون. وأغلق أبوابه ونوافذه. عدا نافذة في الجانب المطل علي الحديقة. وقف وراء ضلفتها المواربة وجه غابت ملامحه في تداخل الظلال. حتي البيوت المطلة علي الساحة الواسعة. أغلقت نوافذها وشرفاتها. وإن أطلت أعداد من الأسطح البعيدة.
حدث في الصباح تبادل لإطلاق النار. دقيقتان أو أقل. ثم سكت. انطلقت - فجأة - رصاصات من ناحية قشلاق الحرس. رد عليها الجنود المحاصرون. ثم خرج من قشلاق الحرس يوزباشي "نقيب" يحمل علماً أبيض. وطلب إيقاف الضرب.
كان الناس يتصايحون لرؤية السيارات التي يأذن
لها حصار الجنود بالمرور. من يتعرف الي الجالس في السيارة ينطق اسمه: هذا الجالس بين حارسين في السيارة الجيب بوللي شماشرجي الملك.. هذا هو السفير الأمريكي جيفرسون كافري.. هذا سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة..
أطلقت المدفعية من خلف السراي طلقات منتظمة. إحدي وعشرين طلقة. هلل لها الناس. ثم سكتت.
ماذا جري في السراي هذا النهار؟
سكتت الموسيقي العسكرية لصوت المذيع جلال معوض: "بني وطني: إتماماً للعمل الذي قام به جيشكم الباسل في سبيل قضيتكم. قمت في الساعة التاسعة صباح يوم السبت 26 يوليو 1952 الموافق 4 من ذي القعدة 1371هـ. بمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا. وسلمته عريضة موجهة إلي مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول. تحمل مطلبين علي لسان الشعب". وكان أول المطلبين التنازل عن العرش لولي عهده الطفل.
أما المطلب الثاني فهو مغادرة البلاد قبل ان يحل المساء.
"من ذكريات السادس والعشرين من يوليو 1952".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف