خيرية البشلاوى
رأفت الميهي: للحياة محطة أخيرة
ارتاح رأفت الميهي المخرج والمؤلف والمنتج السينمائي "1940 ـ 2015" انتهت رحلة الآلام الطويلة وصعدت روحه إلي بارئها في سلام.. فاللهم اجعل مثواه الجنة.
والمبدع لا يموت.. تظل روحه حية ونابضة عبر أعماله وأعمال الميهي علامة مميزة علي صفحة السينما الوطنية تثير الجدل وتختلف حولها الآراء وتبقي رغم أي شيء كاشفة عن اسلوب مخرج ومؤلف مبدع عشق الابتكار وآمن بالتجديد وتعلق بروح عصره وآمن بشباب الفن وحاول قدر مهاراته ومعرفته وما حباه الله من جرأة حميدة أن يحول دون شيخوخة فنه حتي وان لم يحقق أحدها النجاح المطلوب.
أفلام الميهي كمخرج مختلفة المذاق والروح غريبة الشخصيات بعضها تمثل حالات خاصة وبعضها الآخر تطرح علامات استفهام بمواقفها ومن بينها شخصيات بقيت في الذاكرة بسبب شدة اختلافها وغرابتها وبرغم ما تحمله من مضامين واقعية تلمس وتراً عند من يتابعها علي الشاشة.
والميهي كمخرج ومؤلف امتلك وعيا يقظا بما يدور في زمانه من انحرافات ومظالم وتجاوزات ساسية واختار لنفسه اسلوبا خاصا جسورا عندما قام بترجمة قناعاته الفكرية والاجتماعية والسياسية وتحويلها إلي حكايات وشخصيات بعيدة عن الأنماط المحفوظة والمكررة فاضحة في كسرها للتابوهات والقواعد المألوفة.
وقد مهد الطريق بجرأته وأسلوبه في التناول لجيل أصغر آمن بحرية المبدع المطلقة وبحق المؤلف عند الشطط بخياله من دون فرامل الأمر الذي عرضه للمتاعب والمساءلة القانونية بسبب ما اعتبره بعض من أساء إليهم عدوانا.
وبرغم غرابة التناول والخروج عن العادي والمألوف لم يكن الميهي بأي حال بعيدا عن الثقافة الشعبية المعتادة والمتسيدة في أحياء وأجزاء واسعة من الوطن وعلي نسبة كبيرة من المصريين بمن فيهم المثقفون وفي مشواره الفني كسيناريست قدم بعض عيون الأدب المصري والأدب الأمريكي ولكن علي طريقته وحين قرر أن يمتلك التجربة الفنية بكاملها ويتحول إلي مخرج ولا يكتفي بكتابة السيناريو أو التأليف حتي لا تتصادم رؤيته كسيناريست مع رؤية المخرج الآخر. ركب بساط الخيال من دون لجام واستقدم علي الشاشة حيل المهرج الفيلسوف للإثارة والاضحاك ومزج الجد بالهزل واندفع إلي آفاق كانت محرمة محققاً ذاته ومعبرا عما يؤمن به فقدم أعمالا مشهودة تنقلب فيها الأوضاع وطبيعة الوظائف البيولوجية فأثار الكثير من الجدل واشتبك مع الرقابة والجمهور و"حراس" القانون بعد أن فتك بكبريائهم من خلال شخصية "حسن سبانخ" الشهيرة.
عالج كسيناريست القضايا السياسية الخشنة برهافة ونعومة "علي من نطلق الرصاص" و"غروب وشروق" وتناول علاقات المحارم "عيون لا تنام" رافعا كرباجه علي تابوهات لم يكن من الممكن الاقتراب منها بسهولة في ذلك الحين ومهد بذلك الطريق أمام آخرين جاءوا من بعده وصالوا وجالوا في هذا المضمار.
وحين امتطي رأفت الميهي جواد الفنتازيا وانطلق به في عدة تجارب سينمائية تقوم علي "فوضي" تهد الثابت والمستقر في الوعي الجمعي الاجتماعي والسياسي وتقلب الأوضاع فأخرج مجموعة من الأفلام "سمك لبن تمر هندي. سيداتي آنساتي. والسادة الرجال" واستخدم في معالجته اسلوبا ساخرا يثير الابتسام ولا يفجر الضحك لأنه يتكيء علي إثارة العقل وتحريك الذهن والاشتباك بين المتناقضات وطرح الأسئلة "ماذا لو..؟!".
وعندما توقف عن الإخراج والكتابة أنشأ الأكاديمية لتعليم فنون السينما تخرج فيها عدد من "تلاميذه".
والمفارقة المثيرة والمستفزة انه من حضر جنازة "رأفت الميهي" أمس ليسوا ممن كنا نتوقع حضورهم من الممثلين الذين عملوا معه وكان هو سببا في بعض مما هم فيه وليسوا ممن "قاتلوا" في الدفاع عن جنوحه وجنونه الفني.. وليسوا من أصحاب السعادة النجوم علي عكس ما جري في جنازة سامي العدل مع كامل الاحترام له ولكن لذلك أسباب نعرفها وهناك لحياة كل واحد منا محطة أخيرة والسابقون يتركون في العادة ومن دون أي قصد "رسائل" للاحقين لا تصل في الأغلب.