الوفد
علاء عريبى
كأنك لم تكن
عندما تموت ويموت جميع من كانوا يعرفوك، ستصبح بلا وجود، كأنك لم تكن موجودا أبدا، ولا أن الله عز وجل قد خلقك فى هذه الحياة، الملايين قبلك ولدوا وماتوا ومات جميع من يعرفهم، هل تتذكرهم؟، هل تتذكر من يعرفهم؟، أنت وأنا سنصبح مثلهم؟، لن يستطع أحد أن يؤكد وجودك، ستموت ويختلط ترابك بتراب من سبقوك، من الذى يستطيع تمييزك؟، قد يدخل بعض ترابك فى حجر ملقى فى الطريق، وقد يدخل فى حجر بجدار منزل أو مصنع أو سور حديقة، وقد يدخل في حجر يسقط فوق رأس عابر، أو حجر يقتل به آخر فى مشاجرة، وقد تكون جزءاً من حجر رماه طفل فى قاع ترعة أو بحر، ربما يحمل أحد العابرين بعضاً من ترابك فى حذائه وينقلك من بلد إلى آخر أو من قرية أو مدينة إلى أخرى، قد تكون تربة لنبات أو لشجرة أو لنخلة، وقد تكون فى حظيرة تطأك المواشي بحوافرها، من الذى يمتلك القدرة على تمييز ترابك؟، من الذى يمكنه إثبات إنك كنت موجودا؟، من الذى يمكنه تحديد زمن حياتك؟.
الله عز وجل وحده القادر على تمييز ترابك، وانت الوحيد، بعد مشيئة الله، القادر على تأكيد وجود، وذكر اسمك بعد موتك وموت جميع من يعرفك، يمكنك ترك فعل يشير إلى مسقط رأسك وفترة وجودك، والأفعال على أنواع، أهمها: ما يعمل على تخليد اسمك وفعلك، وهو النبوة، مع ذكر الديانة يذكر النبى المرسل، وهذا الفعل المرتبط بالسماء قد يخلد إلى يوم البعث، وقد يخلد لفترة يحددها الله، العديد من الرسل بعثهم الله ولم يذكرهم لنا، ومن الأفعال التى تبقيك بعد موتك وموت جميع من كانوا يعرفونك لفترة، الاختراعات والانتصارات وما تبقى من الحضارات، المؤلفات، مثل الأهرامات، سور الصين، الكهرباء، القنبلة النووية، دواء لعلاج خطير، الانتصار فى الحروب الكبرى، وهذه الأفعال قد تبقيك موجودا لفترة، نحن نتذكر خوفو، وقد ننساه بعد هدم هرمه، ونتذكر صلاح الدين عن ذكر الحروب الصليبية، ونتذكر الجاحظ والمتنبي وطه حسين ونجيب محفوظ عندما نقرأ أعمالهم، أما الاختراعات فقد نتذكر الفعل ولا نتذكر الفاعل، البنسلين نستخدمه ولا نتذكر ألكسندر فلمنج، الكهرباء نستخدمها يوميا ولا نتذكر توماس إديسون، ونستخدم الراديو ولا نتذكر ماركونى، سيظل البنسلين والكهرباء والراديو إلى ان يشاء الله، لكن معظمنا لا يعرف أصحاب الفضل فى وجودها.
وهناك أفعال مرتبطة باللحظة، لا يذكر الفاعل بموته وموت جميع من كانوا يعرفونه، مثل الصحافة والإعلام، ما نكتبه أو نبثه لا يمتلك القدرة على البقاء، ولا يمكنه تجاوز اللحظة التى كتب أو قيل فيها، لأنه مرتبط بلحظة، وعندما تتغير وتتبدل اللحظة يمر ما كتب وقيل فيها، وإذا حاولت استدعاءه عليك بتفسيره وتذكير من هم فى اللحظة باللحظة التى كتبته فيها.
بعضنا ينشر اسمه يوميا ، وبعضنا ينشر اسمه كل لحظة، وبعضنا يكتب ويتكلم في التلفاز، وبعضنا يحفظ اسمه ابناء اللحظة لتكرار ظهوره فى كل لحظة، عند تقاعده أو ابتعاده لفترة تتداخل ملامحه بالآخرين، ويتوه اسمه بين الأسماء، ويصعب تذكره بين أبطال اللحظة، بعضنا يحارب ويقاتل ويطعن ويشي من أجل العابر واللحظة، وبعضنا ينسحب وينطوي ويتأفف ترفعا من مزاحمة محترفي اللحظة، بعضنا لا يرى اللحظة، وبعضنا يتمنى اللحظة، ومعظمنا انجرف لحظة وراء لحظة، نسير بقصاصات ورقية، نجلس ونجتر من ذاكرتنا أرشيف سنوات من اللحظة، نرتدي ثوب الأبطال والشرفاء وكتاب اللحظة، ونتوهم إننا نغير بالفعل اللحظة، عندما نموت ويموت جميع من كانوا يعرفوننا سنصبح مثل الملايين الذين عاشوا وماتوا، مجرد عابرين، لا أحد يمتلك القدرة على تذكرهم أو إثبات وجودهم، وقد يتناثر ترابنا فى حذاء عابر، وقد يدخل فى حجر بجدار، أو حجر ألقاه طفل يلهو على شط الترعة، وقد يستنشق بعضه أحد العابرين، وقد يتطاير في عاصفة، وقد ينقل فى حذا عابر أو حوافر حيوان، بعد أن نموت ويموت جميع من يعرفنا، لن يستطيع مخلوق على وجه الأرض التأكيد أننا كنا، وأن الله عز وجل قد خلقنا، أنت فقط الذي يمكنك أن يبقى ذكر نفسك بعد موتك وبعد موت جميع من كانوا يعرفونك، افعل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف