فجر اليوم الأخير من شهر يوليو الماضى تسللت مجموعة من مجرمى الاستيطان الإسرائيليين إلى قرية قرب نابلس وأضرموا النار فى أول منزلين صادفاهما، كان أولهما خالياً بينما كانت أسرة الرضيع على دوابشة نائمة، فاستشهد على وأصيب والداه وشقيقه البالغ من العمر أربع سنوات بحروق خطيرة، وبعدها بيومين استشهدت الطفلة جاسى البالغة من العمر أربع سنوات بعد أن اخترقت رأسها أعيرة نارية أطلقها ملثمون على السيارة التى كان والدها يقودها فى طريق عودته لمنزله بعد أن حضر مع طفلته وصديق له، نال الشهادة مع جاسى، حفل زفاف. شيع الآلاف جثمان الشهيدين فى قريتيهما وعلت أصواتهم إدانة للإرهاب وطلباً للقصاص. ويلفتنا هذا إلى وجه الشبه بين الإرهاب الصهيونى والإرهاب المتستر بالدين، فالنتيجة واحدة وهى قتل الأطفال وغيرهم من الأبرياء ومحاولة تدمير العمران، وكما أن حرق على لا يمت بصلة للديانة اليهودية التى يدّعى الإرهابيون الصهاينة انتماءهم لها فإن قتل جاسى لا علاقة له من قريب أو بعيد بالإسلام السمح الذى يمعن الإرهابيون المتسترون به فى الإساءة إليه يوماً بعد يوم، ولعلنا نلاحظ السمة المشتركة بين الأعمال الإرهابية أياً كان مصدرها أو مبرراتها، وهى أن الأبرياء غالباً ما يكونون هم ضحاياه وليسوا المقصودين بالعمل الإرهابى، وليهنأ الإرهابيون الذين يزعمون دفاعاً عن الإسلام بهذه المكانة اللاإنسانية التى تضعهم والإرهابيين الصهاينة فى أسفل سافلين، وليغمرهم العار بأعمالهم الخسيسة الغادرة فيما ينشغل شعبهم بإعادة بناء الحياة من أجل مستقبل أفضل.
بل إن المقارنة بين الإرهاب الصهيونى وذلك المتستر بالدين الإسلامى ترجح كفة الأول للأسف، فقد أدرك قادة الإرهاب الصهيونى بشاعة الجريمة وتداعياتها السلبية عليهم فسارعوا إلى إدانتها، وها هو الصهيونى المتطرف نتنياهو راعى الاستيطان الإسرائيلى يصرح فور وقوع الجريمة بأنه أصيب بالصدمة مع أن قتل الأطفال وغيرهم من أبناء الشعب الفلسطينى ليس جديداً عليه، ويصف جريمة المستوطنين بالإرهاب، وهو سلوك غير مسبوق لصهيونى متطرف مثله، ويؤكد أن إسرائيل تتصرف بحزم مع الإرهاب بغض النظر عن مرتكبيه وأنه سيسلك كل السبل حتى يمثل المهاجمون أمام العدالة، ويزور أسرة على فى المستشفى الإسرائيلى الذى نُقلت إليه بمروحية إسرائيلية، وتعهّد وزير دفاعه بإلقاء القبض على المهاجمين وبأنه لن يسمح للإرهابيين بالتعرض لحياة فلسطينيين رغم أن قواته تقتلهم عادة لأوهى الأسباب، ووصف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى الجريمة بأنها عمل إرهابى، مع أن هذا الجيش هو الراعى الرسمى لقتل الفلسطينيين، ولا شك أن السبب فى هذه «الشهامة» أن إحراق على قد أسقط كافة الأقنعة عن إسرائيل أمام شعبها والعالم أجمع فى وقت تدهور صورتها ولو نسبياً فى الساحة الدولية بعد تكرار إغاراتها الوحشية على قطاع غزة وانتهاكها الصارخ قواعد القانون الدولى التى تجرّم الاستيطان.
أما الإرهاب المتستر بالدين فهو غارق فى إجرامه. يبدأ هذا الإجرام بادعاء الجهاد من أجل الحكم بما أنزل الله واحتكار الحديث باسمه سبحانه وتعالى، ثم يحرض أنصاره على قتل كل من يعترض على حكم الله كما يفهمونه هم، وليس غيرهم، فى القوات المسلحة وقوات الأمن التى تتصدى للإرهاب ببسالة ويتساقط من أبنائها الشهداء دفاعاً عن الوطن، ثم ينتقلون إلى التحريض على قتل كل من يتعاون مع هؤلاء الشرفاء، وعندما ينجحون فى مهام القتل التى يفخرون بها ويعتزون أيما اعتزاز تفيض ردود فعل أنصارهم بالشماتة التى تؤذى أبصارنا وأفئدتنا على صفحات التواصل الاجتماعى وتشعرنا بأنهم قد تجردوا من إنسانيتهم نهائياً، بل إن الأمر عادة ما يصل لدى هؤلاء الأنصار إلى الشماتة فى الموت الذى كتبه الله علينا جميعاً، وعندما قُتلت جاسى تساءلت بينى وبين نفسى أتمتد الشماتة إلى قتل هذه النفس البريئة بغير حق؟ لكننى للأمانة لم أجد فى حدود ما شاهدته مؤشرات على ذلك غير أننى لاحظت صمتاً ذا دلالة، فالشماتة فى قتل جاسى تفضح الإرهاب كما فضح إحراق على إسرائيل لكن إدانة قتلها فى الوقت تضر أكثر مما تنفع لأن معناها أن ثمة خللاً جسيماً فى منظومة الإرهاب، وقد يتسبب الاختلاف حول الإدانة فى مزيد من التصدعات والانقسامات الداخلية فى صفوف الإرهاب، ولذلك فإن الإرهاب الصهيونى يعلو درجة على الإرهاب المتستر بالدين على مقياس الإنسانية وكلاهما مفارق لها، فقد وجد قادة الصهاينة فى أنفسهم الجرأة على الإدانة وتوعد المجرمين والحديث عن عقابهم وحماية الفلسطينيين بينما غابت هذه الجرأة عن قادة الإرهاب المتستر بالدين.
يمضى هذا الإرهاب بثبات فى طريقه إلى النهاية بفضل حماة مصر وأبنائها الشرفاء وسوف تتسارع خطاه إلى نهايته المحتومة كلما تسارعت خطانا نحو مزيد من الديمقراطية والإنجازات الاقتصادية والعدل الاجتماعى، لكن الإرهاب الصهيونى لا يجد من يردعه حتى الآن، فالفلسطينيون لا يزالون أسرى مسار تفاوضى عقيم ومقاومة غائمة الرؤية وانقسام سياسى يدل على خلل فادح فى الأولويات، والعرب بدورهم أسرى مبادرات دبلوماسية لا طائل وراءها منذ ١٩٨٢، ولذلك فإن وجه الاختلاف بين الإرهاب الصهيونى ومثيله المتستر بالدين أن الأول يتمتع بحرية حركة مطلقة حتى الآن بينما الأفق مسدود أمام الثانى، ولا شك أنه يتعين علينا أن نجتث الاثنين معاً.