التقيت به للمرة الأولي في البدايات. كان نشر كتاباتي قد أصبح مشكلة مؤجلة. بعد أن فرض هم الوجبة التالية نفسه.. أهملت نصيحة أحمد عباس صالح بأن تقتصر كتاباتي علي القصة. قال ليوسف إدريس: يا جو.. المستقبل لهذا الولد. شملني إدريس بنظرة مستخفة. ومضي. وسحب محمد عودة قصة لي من أمام عباس صالح. قرأ سطورها الأولي. وتساءل في دهشة: أين هذه الموهبة التي تتحدث عنها؟
جواز سفري إلي الصحافة ثلاث قصص قصيرة: يا سلام. الماهية. موقف. قرأ أولاها سعد الدين وهبة.. وافق علي إلحاقي بالمجموعة المتعاونة معه في في الصفحة اليومية "صباح الخير".
قدمني إلي نفيسة حرك ومحمود خطاب وجلال السيد ووحيد النقاش وسليمان فياض.. كتمت الرفض في داخلي لما تبينت المهمة التي كان عليَّ أن أقوم بها: أتردد علي الندوات الثقافية والأندية والشخصيات العامة. أزود الصفحة بما يصادفني من أخبار اجتماعية: زواج وطلاق وأعياد ميلاد الخ.. كانت دائرة تحركي محدودة.. الأدق اني لم أكن أستطيع التحرك علي الاطلاق.. الإسكندرية هي المواطن والنشأة والأصدقاء.. أما القاهرة فقد كانت ــ بالنسبة لي ــ دنيا حافلة غامضة مجهولة.
صحبني زميلي صلاح أبو سالم ــ مؤلف أغنية عبدالحليم حافظ "علي حسب وداد قلبي"ــ إلي نادي الفنانين بشارع عرابي.. تكشف لي ــ بعد دقائق ــ ان العنقاء الأسطورية هي الخبر الاجتماعي الذي يطالبني به سعد الدين وهبة.
عدت إلي عباس صالح.. وافق أن أهمل القصة ــ مؤقتاً ــ وأكتب بعض المقالات. فيساعدني علي نشرها.. توجهت بمقالة عن "تاجور" وبكلمات توصية. إلي مبني "المساء" القديم في شارع الصحافة.. المصعد عليه لافتة "اثنان فقط. وإلا سقط".. التقي بي سليمان مظهر في الصالة الواسعة. سألني: من تريد؟
ـــ الدكتور علي الراعي.
ـــ لا يوجد في القسم الأدبي الآن سوي فاروق منيب.
والتقيت ــ للمرة الأولي ــ بذلك العملاق البسيط. الطيب القلب.. تصورت اني أصادقه من زمان.. حدثني عن الشرقية وأنشاص وحسن حاكم وجيلي عبدالرحمن ومزارع المانجو وحدائق البرتقال.. حدثته عن الأنفوشي والصادين والميناء الشرقية والمرسي أبو العباس.
ظل فاروق منيب ــ لا أدري لم؟ ــ هو صورة الفلاح أمامي.. البساطة والتلقائية والإيثار والتكافل والتخاطب في ود. حتي مع هؤلاء الذين يلتقي بهم للمرة الأولي. أو مصادفة. باعد بيننا اختلاف مكان العمل. لكنني كنت أحرص علي متابعة إبداعاته. وزيارته في بيته المشمس بحلوان.
وتعمدت الإكثار من زياراتي حين علمت بنبأ المرض الذي دهمه فجأة. اختلطت في عيني نظرات الاعجاب والدهشة. واجه التحدي ببسالة المدافع عن المبدأ. رفض الهزيمة والاستكانة وعناق اليأس. أخلص للقراءة والإبداع. ولم يغب تألق ابتسامته. تعلم كيف يستخدم ــ بنفسه ــ جهاز الكلي الصناعية. ولما أشار الأطباء بضرورة سفره إلي لندن. داعبه سيد جاد: هكذا ترغمك الظروف علي تعلم الانجليزية!
أصر فاروق منيب علي رفض التحول إلي مريض يرجو الحياة باستبدال دمائه مرتين كل أسبوع. شاهد. واستمع. وناقش. وواصل الإبداع. وروي في روايته "أيام الأمل" تجربة المرض. ودفاعه عن الحياة بإصرار المدافع عن القيمة والمبدأ. بدت فصولها من التلقائية التي لم تغادر فاروق منيب. كأنها وصية النبالة لواحد من أخلص فرسان زماننا. تسلل في هدوء ــ هو بعض تكوينه النفسي ــ ونحن نوالي قراءة فصولها. قال لنا ــ بالنهاية النادرة المثال ــ ان المصير الإنساني رهينة في يد القدر. لكن عظمة الإنسان في اصراره علي أن يجعل هذا المصير ــ مادامت أنفاسه تتردد ــ نضالاً. واصراراً. وإضافة إلي المسار الإنساني.