الجمهورية
أحمد بهاء الدين شعبان
خرائب عين شمس
عشت جل سنوات طفولتي وشبابي متنقلاً بين حيين: حي "حلمية الزيتون" وحي "عين شمس". في شرق القاهرة. وكانا حيين رصينين هادئين. يسكن فيهما أعداد ليست بالكثيرة. فيما كانت "ضاحية عين شمس" القاهرية. واحة تفوح من مواقعها روائح الورود والياسمين!. تمر بها كل صباح سيارات رش المياه لترطيب الجو. ويتابع شوارعها الكناسون ليل نهار. حتي لا تتراكم مخلفاتها.
ولم يتح لي. منذ تركت سكني حي "عين شمس". قبل نحو عشر سنوات. أن أتجول في شوارع المنطقة. وأتملي ما أحدثته فيه تضاريس الزمن من ندوب وتقرحات. إلا يوم الجمعة الماضي. حيث دفعتني الظروف إلي التجول في أغلب طرقه الأساسية. "وبالذات في: "أحمد عصمت". شارعها الرئيسي. وشارعي "صعب صالح" و"إبراهيم عبدالرازق". وغيرهما". في ساعات الصباح المبكر. حيث اليوم يوم عطلة. والشوارع خاوية علي عروشها. والجميع نيام. بعد أن تابعوا. حتي ساعة متأخرة. حفل تدشين القناة الجديدة. وخطاب الرئيس "السيسي". وواكبوا فرحة المصريين بالنجاح المتحقق!
ولقد هالني ما رأيت في "حي عين شمس" ذلك اليوم. وما صادفته في أطرافه: من تلال القمامة. وأكوام الرمل والزلط. ومخلفات الهدم والبناء.. إلخ. حتي خلت أنه أطلال حي خارج من حرب ضروس. وأكاد أجزم. مما شاهدته عياناً بياناً. أن شوارع هذا الحي لم تعرف الكنس. أو يمر بها عامل نظافة. منذ سنوات طويلة. وأن مسئولاً واحداً من مسئولي حيها العتيد. لم يكلف خاطره ترك مكاتبه الفاخرة المكيفة. والنظر في أحوال شوارعها. منذ سنين. والحال باختصار: لا رصيف تمشي عليه. بعد أن احتلته بضائع المحلات وكراسي المقاهي. وسيارات الساكنين. ومخلفات المستأجرين!. والشوارع التي كانت تملأها ظلال الأشجار الوارفة علي الناحيتين. فقدت رونقها وأصبحت عامرة بالقبح والدمامة. وافتقدت تماماً كل لمسة جمال. أو نظام للبناء. وكل الفيللات والقصور الأنيقة القديمة. تم هدمها. "حتي لم يبق فيها. إلا ربما قصر الأمير "يوسف كمال". الذي استولت عليه وزارة الزراعة. منذ سنوات طويلة"!. وانبنت محلها. أبراج شاهقة. لا يعرف إلا الله. كيف ستتحمل مرافق الحي المتهالك. وشوارعه المختلفة أعباءها الإضافية!
"عين شمس" القائمة فوق مدينة "أون" المصرية القديمة الخالدة. بالمقربة من مسلة المطرية الشاهقة. وعلي مشارف شجرة "السيدة مريم" والتي يفصلها عن مدينة "هليوبوليس" أو "مصر الجديدة" شارع واحد. رأيتها بالأمس القريب. وقد أصبحت نموذجاً لكل ما حاق بحياتنا من ترهل وتخلف وتدهور وبشاعة!
لقد لاح لي بالفعل أن حي "عين شمس" قد تحول إلي ساحة للفوضي والقذارة وغياب الوعي والضمير. وخطر لي أن أطالب بمحاسبة كل موظفي الدولة. العاملين بهذا الحي العتيد. المشرفين علي سككها ومرافقها. لسبب واحد بسيط. أنهم أهملوا إهمالاً جسيماً في أداء واجباتهم. ولم يحلل فرد واحد منهم. ما يتقاضي من مرتب. مقتطعاً من قوت الشعب الغلبان. وتركوا شوارع الحي وحاراته. علي هذا النحو من البؤس والانحطاط وليست القضية قضية نقص في الإمكانات المادية بأي حال. لكنها بالأساس في غياب الالتزام وضياع شرف الوظيفة العامة. وانعدام حس المسئولية لدي الموظف العام. الذي يقبل ضميره أن يتقاضي أجراً عن عمل لا يقوم به. وأن يجلس علي كرسي لا يستأهله. وفي موقع لا يستحقه!
لا أعرف من هو المسئول الذي أتوجه إليه بشكواي مطالباً بمحاسبة كل المستوظفين في حي "عين شمس" عن حالته المزرية. وأوضاعه البائسة. التي طالعتها بأم عيني يوم الجمعة الماضي؟! وأعرف أن البعض سيقول: "وهل هذا وقته!" متعللاً بأننا نواجه الإرهاب. وما هو أهم. ولهم أقول: "نعم هو وقته بالضبط". إذ كيف لنا أن نهزم عدواً شرساً كالإرهاب. ونحن لا نستطيع أن ننظف شوارعنا وحاراتنا. أو ننظم أرصفتنا ومداخل بيوتنا!
وأنا أسير وسط خرائب "عين شمس". زرفت الدمعة من عيني. وأنا أتذكر أبي الراحل. الموظف العمومي النقي الهمام. الذي ربانا علي حُرمة المال العام. وعلي ضرورة أن يحلل الموظف العام أجره. وعلمنا أن العمل عبادة. وإتقانه من سبل مرضاة الله!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف