تتواتر الأنباء عن زيادة مصاريف المدارس الخاصة والتجريبية خلال العام الدراسي القادم.. وأيضا زيادة مصاريف الأقسام الإنجليزية التي أنشأتها بعض الكليات في الجامعات الحكومية بهدف رفع كفاءة الخريجين بما يناسب متطلبات سوق العمل.. والمبرر الذي يساق في هذا الصدد هو زيادة مرتبات المعلمين وأساتذة الجامعة.. وبالطبع هذه الزيادة لن يتحملها أحد إلا الطلاب.
والحقيقة أن الزيادات الطارئة والعشوائية في المصاريف الدراسية والجامعية صارت تمثل عنصرا من عناصر الضغط المالي الذي يمارس علي الطلاب وأولياء أمورهم.. إن شئت الدقة وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية فهو ابتزاز علني واضح المعالم.. يرتدي ثياب المشروعية بمقتضي فرض الأمر الواقع.. حيث لا بديل ولا اختيارات أخري متاحة.. ليس أمامك إلا أن تدفع.
وبتكرار التجربة.. فإن النموذج الأفضل للتعامل في هذه القضية هي أن يتم تسريب أخبار صغيرة عن هذه الزيادات في الصحف ثم نفيها علي لسان المسئول الكبير.. ثم إعادة نشر وتسريب الأخبار.. وعندما يذهب الطالب إلي المدرسة أو الكلية يقال له إن الزيادة حقيقية ولم يرد إلينا أي منشور بإلغائها وما يقال غير ذلك ليس سوي كلام جرائد لا نعترف به.. وهنا لا يكون أمامك إلا أن تدفع وإلا فإن ابنك سوف يشرد أو يذهب إلي المجهول.
وقد أعلن فعلا منذ شهر تقريبا عن زيادات جديدة في مصاريف المدارس الخاصة والتجريبية لكن وزير التربية والتعليم نفي وجود أي زيادات.. ومع ذلك فإنني أؤكد من الآن أن الزيادات حقيقية وأن أولياء الأمور سوف يدفعون مرغمين.. ولا عزاء لأي تصريحات رسمية للنفي في هذا الأمر.
نفس الشيء يحدث في الأقسام الإنجليزية في كليات جامعة القاهرة التي تحولت إلي بيزنس قطاع خاص للبحث عن الربح السريع.. كانت مصروفات كلية التجارة "إنجليزي" في العام الماضي سبعة آلاف جنيه وهذا العام ارتفعت إلي عشرة آلاف جنيه.. وفي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كانت المصروفات في العام الماضي 7.5 ألف جنيه وهذا العام ارتفعت إلي 12 ألف جنيه.. وهو ما يعني أن هذه الأقسام استبعدت شرائح عريضة من أبناء الشعب المصري.. وأصبحت تنافس الجامعات الخاصة في المعدلات المتسارعة لزيادة المصروفات.. ولم يعد فيها مكان لأبناء الطبقة المتوسطة.
والحقيقة أن طبيعة المنظومة التعليمية بأكملها تغيرت في ظل حالة النهم اللامحدود للحصول علي المال بكل الوسائل من الطلاب.. فالتعليم لم يعد حقا من حقوق المواطنة.. ولم يعد واجب الدولة تجاه مواطنيها.. ولم يعد رسالة.. ولم يعد خدمة وطنية واجتماعية وأمنا قوميا واستثمارا في المستقبل كما كان يقال في الدساتير.. ولم يعد هناك مجال للحديث عن مجانية التعليم كالماء والهواء.. ولا حتي مجانية شكلية.. وإنما صار التعليم تجارة وشطارة.. ووسيلة فعالة لاستنزاف الأسرة المصرية.
دعك من الدروس الخصوصية التي صارت مما هو معلوم في المجتمع المصري بالضرورة ولا جدوي من أي حديث بشأنها.. ولكن انظر حولك.. هناك رسوم لسحب الاستمارات ورسوم لتقديم الملفات ورسوم لامتحان القدرات ورسوم للدورات التدريبية استعدادا لامتحان القدرات ورسوم للتظلم من درجات المواد ورسوم لامتحان القبول الداخلي في الكليات بعد مكتب التنسيق.. وهكذا.. وهكذا.
وتجدر الإشارة هناك إلي أن كل ذلك يحدث في إطار التعليم الحكومي المخصص للفقراء والطبقة الوسطي التي تعيش بالكاد في زحام ارتفاع أسعار كل السلع والخدمات بشكل يومي.. وتعاني من أزمات في جميع المتطلبات الأساسية للحياة.. ولا يجرؤ أبناء هؤلاء الفقراء أن يفكر - مجرد تفكير - في النظر إلي أية فرصة في التعليم الخاص.
في ظل وضع مثل هذا يجب أن تعيد التفكير من جديد في المسلمات التي كنا نطلقها مثل تكافؤ الفرص والمساواة.. فطبيب المستقبل في الغالب لن يكون طبيبا بقدراته العقلية ومهارته وإنما سيكون طبيبا بمال أبيه وأمه.. وكذلك الصحفي والمهندس والدبلوماسي وما شابه ذلك.. وما لا يتحقق بالمال يتحقق بتوريث الوظيفة.. أما الفقراء فلهم الله.