د. محمد مختار جمعة
الخطاب الديني وتصحيح المسار
الإنسان متدين بطبعه وفطرته. ينزع إلي قوة غيبية أو روحية يري فيها خلاصه. ويستمد منها جزءاً كبيراً من قيمه ومبادئه. يدين لها بولاء ما. ولا يمكن للإنسان أن ينزع إلي الخواء الروحي لفترة طويلة مهما كانت درجة إلحاده. وإلا حاصره الاكتئاب والعقد النفسية وإن تمسح بمسوح السعادة.
فالتدين أيا كان اتجاهه فطرة. والتدين الصحيح هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها. "فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناسَ عليهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" "الروم: 30". وفي الحديث القدسي "إني خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلهُم. وإَّنهُمْ أتتهُمُ الشيَاطينُ فَاجْتَالتهُم عَن دِينِهم. وَحرمَت عليهم ما أحللتف لهم" أي أبعدتهم عنه "رواه مسلم".
وأي انحراف عن مستوي الدين الصحيح هو انحراف عن طريق النجاة. وان كان من خلل في تفكير بعض المحسوبين علي تيارات التدين السياسي فإن ذلك لا يمكن أن يؤخذ علي أنه خلل في مسار الفكر الديني.
وإذا كنا نبحث عن المسار الصحيح فلابد أن نرجع إلي العلماء المستنيرين من أهل الاختصاص. وألا نعمم الأحكام علي الناس بالانغلاق أو سوء الفهم أو ضعفه أو عدم القدرة علي مواكبة العصر. وإن كنا نستشعر بل نوقن أننا في حاجة إلي المزيد من بذل الجهد في التدريب والتطوير والتحديث والعمل علي معايشة الواقع ومواكبة العصر.
وينبغي ألا نقع في أخطاء العقود الماضية فنخلط بين محاربة التطرف ومحاربة التدين. والنظر إلي المتدينين علي أنهم المتطرفون. لأننا إذا ضيقنا علي علماء الدين المتخصصين أو أسرفنا في تعميم الأحكام أو الإقصاء من المشهد الثقافي أفسحنا المجال أمام الفكر المتطرف ودعاة التشدد والغلو من خلال تنظيماتهم السرية وإغراءاتهم لاجتذاب الشباب إلي صفوفهم. مؤكدين أن شعبا بلا دين. هو شعب بلا قيم. شعب بلا أخلاق. شعب بلا ضمير. شعب ينزع إلي عالم آخر غير عالم الحضارة والرقي. وأن الدين هو الغذاء الحقيقي للروح وللأمم وللحياة وللحضارة وللقيم والأخلاق ولإذكاء الضمير الإنساني وللأمان النفسي. ولتنظيم كثر من حركة حياة الأفراد والمجتمعات. ولو في ضوء قواعده العامة ومقاصده الكلية.
إننا في حاجة ألا نقابل شطط بعض الجماعات التي ذهبت إلي أقصي اليمين في التشدد والغلو والتطرف والإرهاب بأن نذهب إلي شطط مناقض بالذهاب إلي أقصي اليسار من التحلل والتسيب والتفريط. فقد قال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالي: "ما أمر الله "عز وجل" في الإسلام بأمر إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدي جهتين لا يبالي أيها أصاب الإفراط أو التفريط. الغلو أو التقصير. وقالوا: لكل شيء طرفان ووسط. فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر. وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان. وقد قيل لابن عباس "رضي الله عنه": حب التناهي شطط. خير الأمور الوسط. هل تجد هذا المعني في كتاب الله "عز وجل" فقال "رضي الله عنه": في أربعة مواضع. قوله تعالي: "ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَي عُنُقِكَ وَلاَ تَبسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً" "الإسراء: 29" وقوله تعالي: "والذِينَ إذا أنفقوا لَمي يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً" "الفرقان: 67" وقوله تعالي: "وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سًبِيلاً" "الإسراء: 110". وقوله تعالي: "قَالَ إنهُ يَقُولُ إنِّهَا بَقَرَة لا فَارِض وَلاَ بِكْرُّ عَوَانُّ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤمَرونَ" "البقرة: 68".
ولذا فإننا إذا أردنا أن نقضي علي التشدد من جذوره فلابد من أن نقتلع التشدد من جذوره أيضاً. وبنفس النسبة والمقدار. فلكل فعل له رد فعل مساوي له في القوة ومعاكس له في الاتجاه. مما يجعلنا نحذر من أن الدعوة إلي الإلحاد المسيس والموجه لهدم مجتمعاتنا وإلي الإباحية أو الخلاعة أو المجون أو العري هي قنابل موقوتة مثل قنابل المتطرفين سواء بسواء. فأخطاء دعاة الانحلال الموجهة المقصودة أو غير المقصودة هي أكبر وقود لتغذية التطرف. حيث توفر للمتطرفين حججا شكلية لتضليل الشباب وتجنيدهم وايهامهم بأن دولهم لا تريد الدين. بل تحاربه. مما يسهل لها عملية استقطابهم وتجنيدهم. وهذا يتطلب منا اليقظة والفطنة والحذر. والوسطية والاعتدال في كل شئون حياتنا ومناحي تفكيرنا وجوانب ثقافتنا أو تثقيفنا وفي فننا وإبداعنا. إذ لا يمكن لمسار ما أن يغرد منفردا أو أن يسبح في عالم وحده. أو أن يعمل في الهواء الطلق بمنأي عن المسارات الأخري التي لا غني لعن عن النظر بعين الاعتبار إليها. إذا كنا نؤمن بأصول علوم الاجتماع والعمران وبناء الحضارات علي أسس راسخة لا أسس واهية.