إن الذي يجمع بين كل هؤلاء العظماء هو ثقل الرحيل، لا ثقله علي القلب فقط، وإنما ثقل معناه
من يشاهد جنازة العظيم الراحل «نور الشريف» وعزاءه، علي شاشات التليفزيون، وقد احتشد فيها الناس، جيئة وذهابا، ربما يفهم المعني العميق للحياة في الموت، والموت في الحياة، خاصة إذا كان مثلي، لاعلاقة شخصية له بالفنان الراحل، ولابالفنانين، إلا فيماندر، ممن احتشدوا حول جثمانه، ثم حول زوجته (الفنانة بوسي) وأسرته.من موقع الجمهور العريض للفنان أعاد لي المشهد قيمة غائبة، منذ رحيل أم كلثوم، وعبد الحليم..إلي آخر العظماء، وليس انتهاء بالجرح الغائر في نفوس جيلنا حين رحلت، في ظروف لم تزل غامضة! فتاة الأحلام والمثال الجمالي والإنساني لشبابه وفتياته: «سعاد حسني»، أو برحيل العبقري أحمد زكي، وإلي جواره الجملة المقتضبة الباترة، التي قرأناها في رحيل نور الشريف أيضا: «بعد صراع مع المرض»! هل هو «المرض» بمعناه الجسدي، أم أن له دلالة يضفي عليها الموت قداسة وكشفا؟! إن الذي يجمع بين كل هؤلاء العظماء هو ثقل الرحيل، لا ثقله علي القلب فقط، وإنما ثقل معناه، وقد رسخ أمامنا، ثقل ذلك الصراع الذي خاضوه ضد الابتذال والفجاجة والتسطح واللعب بالأوراق الرابحة، المعني الذي لخصه «أحمد زكي» في مرافعته المهيبة، التي تقبض علي القلوب، كلما رأيناها «ضد الحكومة»: «أنا ابن لهذه المرحلة، والمراحل التي سبقتها، هنت عندما هان كل شئ، وسقطت كما سقط الجميع في بئر عميق من اللامبالاة والإحساس بالعجز....».مايجمع بين نور الشريف وهؤلاء الكبار هو تلك الوصفة السحرية للفنان الخالد في قلوب جماهيره، ماأوجزه نجيب محفوظ في جملة - كعادته- عن أن الفنان هو من يدرك بحسه اللحظة التاريخية التي يمر بها وطنه، وقد أدركها كبار الفنانين، لذا بقوا كبارا، مثلهم مثل نور الشريف، بدءا من «قصر الشوق» وانتهاء «بتوقيت القاهرة»، كان نور الشريف دائما كمن يمتطي قاربا رياضيا مغامرا، يقوده «لانش» من الموهبة والثقافة والموقف الواضح، لم نحبه لأنه قدم أدوارا مهمة فقط، ولا لأنه غامر فقدم لنا مخرجين شبابا وقتها ( سمير سيف، عاطف الطيب، مثلا،وحتي الآن «أمير رمسيس»مثلا) ولكننا أحببناه لأنه كان معنا يدا بيد عبر الرحلة الطويلة العسيرة لهذا الوطن؛ لم نحب «سواق الأتوبيس» إلا لأنه كان يجسد جيلا كاملا حمل هذا البلد علي كتفيه لتختطف أحلامه الصغيرة مخالب الانفتاح، ولم نحب»محمد زغلول»في «أهل القمة»، إلا لأن حوض الأسماك لم يعد يتسع للصوص الصغار فألقي بهم الفاسدون في محيطات الفساد لتلتهمهم أسماك قروشها أو»كروشها» العملاقة، لم نحب «عبد الغفور البرعي» إلا لأنه كان يمنحنا شيئا من الأمل في قدرة «العصاميين» الشرفاء علي الحياة، في أزمنة بدا الشرف فيها مدعاة للتندر! لم تكن تلك الأدوار، وغيرها، مجرد أداء متميز لممثل كبير، بل كانت تستند إلي رؤية حكمت مسيرته، وانحياز لهموم جيل، وحس باللحظات التاريخية الجارفة في حياة هذا الوطن. ربما يكون هذا هو سر احتشاد الناس حوله، حتي في موته، ربما لهذا كف البعض عن جلد الذات وسب شباب الفنانين لأن بعض جنازات فنانين آخرين خلت منهم، فالموت تحديدا، يفرز المواقف كلها، وأنت لاتستطيع أن ترغم أحدا علي أن يرافق أحدا حتي يودعه قبره، إلا إذا كان يودع معه جزءا من روحه، ويأخذ من موته مايهديه الموتي للأحياء، شرارة الرحيل الموقدة للروح كي تحيا وتبدع وتصون إنسانيتها، هدية «الدأب»، و»المثابرة» و»المذاكرة»، لاهدية التجارة والسوق والموهبة المبنية علي «الفهلوة»، هدية الرؤية وهي تتشكل يوما بعد يوما كزهرة تتفتح، هدية مصارعة الزيف والفساد والمداهنة والتملق، هدية الفنان حين يخلص لفنه ولوطنه، فيترك في قلوب من عرفوه، ومن لم يعرفوه، دمعة ومعني لحياتهم، وقبل كل ذلك هدية أن يبقي الفنان في بلاده، ورغم رحيله: «حدوتة مصرية».