عندما رست السفينة الإيطالية "لي كونت فيرد" -أي الكونت الأخضر- في 5 يوليو 1930 علي رصيف ميناء مونتفيديو "عاصمة أوروجواي" وأكثر عواصم أمريكا اللاتينية أخذا بالحضارة الأوروبية في ذلك الوقت كان آلاف المشاهدين يتلهفون لاستقبال الفرق الضيفة القادمة من أوروبا.. فرق رومانيا وفرنسا وبلجيكا "وقد تأخر فريق يوغوسلافيا في الوصول لأنه قدم علي السفينة فلوريدا. وهي أبطأ من الكونت الأخضر".
وبلغت حرارة الاستقبال ذروتها عندما ظهر علي سلم السفينة رجل قصير نحيف يزيد من وقاره شعر أبيض يكسو كل رأسه وارتفعت الهتافات تحيي البطل الأصلي والأصيل "جول ريميه".
وكان هناك شوق أكبر ولهفة أكثر.. وفضول أشد لرؤية جائزة "جول ريميه" كأس العالم نفسه.. وعندما لوح جول ريميه لمستقبليه بكأس من الذهب الخالص يزن أربعة كيلو جرامات ويبلغ طوله 30 سنتيمترا.. وهي تعتبر من روائع الفنان الفرنسي "ابيل لافلور".. جن المستقبلون ولم يدر بخلد أكثرهم تفاؤلا أن السماء ستستجيب لدعواتهم.. وأن كاسترو "ذا اليد الواحدة" سيحقق أمنياتهم لظاهرة.. وآمالهم الباطنة.. لتبقي الكأس في وطنهم أورجواي سنين أربع معززة مكرمة.
وقد بلغت نفقات صنع الكأس الذهبية 50.000 فرنك فرنسي "حوالي ثلاثة آلاف جنيه استرليني" وهي مؤمن عليها بثلاثين ألف جنيه استرليني.
ولكل دولة تفوز بالكأس الحق في الاحتفاظ بها طيلة السنوات الأربعة التي تفصل بين كل بطولة من بطولات الكأس والبطولة التالية لها ومن تفوز بها ثلاث مرات سواء متصلة أو متقطعة. لها الحق في الاحتفاظ بها إلي الأبد وفي هذه الحالة تصنع كأس جديدة وقد صرح رئيس المجلس الرياضي البرازيلي في غمره فوز البرازيل بالكأس للمرة الثانية علي التوالي عام 1962 بأن البرازيل في حالة فوزها للمرة الثالثة واحتفاظها بالكأس إلي الأبد ستقدم كأسا جديدة تسميها كأس "ونستون تشرشل" ولكن البرازيل لم تفز عام 1966 كما كانت تتمني!!
فترات عصيبة..
وقد بذلت محاولات عديدة "للاستيلاء" علي الكأس التاريخية النادرة التي تمثل تمثالا صغيرا لآلهة النصر تحمل كأسا بين ذراعيها المرفوعتين. وكانت هذه المحاولات مبذولة علي المستوي الدولي.. والفردي!.
فعندما قامت الحرب العالمية الثانية كانت قد مضت خمسة أعوام علي وجود الكأس في "المدينة الخالدة" روما.. ولكم كان يعتز بها موسوليني نفسه.. وقد حاولت القوات الألمانية النازية في أثناء المعارك الضارية التي دارت بينها وبين قوات الحلفاء في أراضي شبه الجزيرة الإيطالية الاستيلاء علي الكأس ولكن الدكتور أوتورينو باراسي أحبط تلك المحاولات بنقله الكأس من مقر اتحاد الكرة الإيطالي الذي كان يرأسه أوتورينو في ذلك الوقت ليخفيها تحت فراش نومه.. فقد لفها في بعض ملاسه القديمة وأخفاها "تحت البلاطة"!! ولكن لم يطمئن قلبه إلا بعد أن هربها مساعداه جورجيو فاكارو. وجيوفاني ماورو إلي الخزانة الفولاذية في بنك سويسرا.. في روما!
قصة كلب..
وفي مارس عام 1966 التفت الدهر.. واهتزت الدنيا.. وقام عالم الكرة ولم يقعد إلا بعد أن عثر "بيكلز" علي الكأس المسروقة.
و"بيكلز" كلب!! كان كلبا عاديا ثم أصبح أشهر كلب في العالم كله!! ففي يوم أحد أسود في تاريخ الكرة سرق شخص مجهول من معرض طوابع بريد.. كأس العالم لكرة القدم.. وأين اللص الذي يستطيع تقديم أشهر عمل فني في العالم إلي تاجر مسروقات.. للتصرف فيه!!
وداخ بوليس لندن.. وبوليس كل إنجلترا.. طيلة ثمانية أيام بلا جدوي وفشلت سكتلندا يارد فيما نجح فيه.. أنف كلب.
فقد دعبس الكلب في أرض حديقة- اعتاد صاحبه أن يصحبه إليها- بطريقة لفتت نظر صاحبه وأخذ يحفر ليخرج طرف لفافة ما أن فتحها صاحبه حتي احتاج إلي كل نشادر العالم ليفيق!! فقد كانت اللفافة الملطخة بالتراب وطين الحديقة.. تضم جائزة جول ريميه.. التي كافح المحامي الفرنسي القصير الهزيل النحيل عشر سنوات ليقنع العالم بجدواها وفائدتها!!
وتحول "بيكلز" من كلب مغمور إلي كلب مشهور!! وانهالت عليه العقود -عقود العمل في السينما والتليفزيون- والهدايا.. وخطابات التمجيد والتهنئة.. من مختلف أنحاء العالم!
ومنح الحيوان الإنسان فرصة العمر ليعاود ممارسة متعته الحبيبة المثيرة.. مشاهدة مباريات بطولة كأس العالم لكرة القدم.. والعيش في ضجيج وصخب.. وجنون وهوس! وهي الحالة التي تعيشها الدنيا طوال الأسابيع الثلاثة الخالدة التي تقام فيها كل سنوات أربع الأدوار النهائية لبطولة كأس العالم!! تتوسطها فترة جنون أخري -وإن كانت أقل نسبيا- وهي الدورات الأوليمبية!!
ومنحه فوق هذا وذاك متعة إطلاق مشاعره الحبيسة سواء في صيحات مجنونة لتشجيع فريقه أو صرخات مهووسه لاستهجان ألعاب خصوم فريقه.. أو انتقاد الحكام حتي عندما يتخذون قرارات عادلة سليمة ضد نجوم فريقه.. لترتفع صيحات الانتقاد والاعتراض بمختلف لغات العالم.. وحسب تعبيرات كل شعب.. فيصيح الألمان "شيدز ريختر.. تليفون" أي "أيها الحكم.. إنك مطلوب علي التليفون" ويصرخ الطليان "بيدوني" أي "العبيط أهه" أو "النصاب"! وإذا تمسك الحكام بقراراتهم العادلة غالي الطليان في تعليقاتهم ليصبح الحكام في نظرهم "فيندوتو" أي "باعو ذمتهم" وينفعل الروس لتدوي حناجرهم بالعبارة التقليدية "استخدموا الحكام في صنع الصابون!" أو كما يقولون في مصر "شيلوا الرف"!