الوطن
سعد الدين هلالى
تأمين المساجد بالكاميرات
الأمن هو النعمة الأولى لحياة الشعوب المستحدثة، ولذلك كان دعاء إبراهيم الخليل، عليه السلام، لمكة المكرمة فى بادئ عهدها الذى افتتحه بإسكان زوجته هاجر وطفله إسماعيل أن يرزقهم الله الأمن قبل الرزق، فقال: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ»، (البقرة: 126)، أما الشعوب القديمة التى ضربت بجذورها فى التاريخ، فإن نعمة الأمن لها تأتى فى المرتبة الثانية بعد الطعام والغذاء، فمهما تعرضت للمخاوف والغارات فلن تستأصل من التاريخ؛ لأنها لن تعدم بقية منها تجدد وجودها وتعيد مجدها بخلاف الشعوب المستحدثة التى قد تباد وتنتهى إن تعرضت للخوف والإرهاب، ولذلك وجدنا القرآن الكريم فى امتنانه على قبيلة قريش التاريخية يقدم نعمة الطعام على نعمة الأمن، فقال سبحانه: «الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» (قريش: 4).

وسواء قلنا إن نعمة الأمن هى الأولى فى حياة الشعوب أو الثانية بعد الطعام والغذاء، فإن نعم الله فى الدنيا لا تأتى بغير اتخاذ الأسباب المباشرة بالتخطيط والتدبير الإنسانى، أو الأسباب غير المباشرة التى يسميها البعض قدرية أو مصادفة أو حظاً؛ ولذلك وجدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام، الذى سأل ربه أن يجعل مكة بلداً آمناً قد سأل ربه أيضاً أسباب هذا الأمن واختار منها ما يديمه ويطيل أمده، وهو الرفقة التى تكون شعباً يستقوى بعضه ببعض ذاتياً، فقال كما ورد فى القرآن الكريم: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (إبراهيم: 37)، فهؤلاء الذين يسكنون بقلوبهم مكة ولم يتخذوها معبراً لأجسادهم سيتآلفون فى نسيج شعب واحد، وهذا هو السبيل الصحيح فى نشأة الشعوب الآمنة، كما قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (الحجرات: 13). إذن، أمن الشعب لن يكون إلا بسكنى قلوب أهله وطنهم، فهذه القلوب المتعلقة بالوطن هى التى ستتآلف فى حمايته ليقين أصحابها بوحدة المصير فى الوجود أو عدمه، أما المقيمون فى الوطن بأجسادهم حتى ولو كانوا حاصلين على جنسيته واستفادوا بخيره، فإنهم لن يكونوا من أسباب أمنه لتعلق قلوبهم بغيره، وكثيراً ما يكونون خطراً عليه؛ لأن العبرة فى المواطنة الآمنة بالقلوب لا بالأجساد، فقد أخرج الشيخان، واللفظ لمسلم، عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب. خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا. والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

وإذا ثبت أن أمن الوطن يقع على أهله الذين تعلقت قلوبهم به، ولن يكون بإعجاز سماوى؛ حتى يتحقق أثر الابتلاء على الشعوب فى حماية أوطانهم، كما قال تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (هود: 7ـ الملك: 2)، وحتى يظهر عدل الله الذى أطلق المنافسة فى التقوى، وفى الريادة بين خلقه وجعل بقاء الشعوب بإصلاح أهلها وليس مجرد صلاحهم فى أنفسهم كما قال تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» (هود: 117). إذا ثبت هذا فإن الشعوب لن تحقق أمنها إلا بمواكبة حضارتها، فالشعب الذى يتخلى عن أدوات حضارته ويظل حبيساً على حضارة الماضى، كالذين يقفون فى أدوات القتال العسكرية عند رباط الخيل وظلال السيوف، لا يلومن إلا نفسه عند هزيمته من جيش عاش عصره وأباد أعداءه بالطائرات والدبابات والصواريخ، والشعب الذى تخلى عن السلاح النووى رادعاً، فلا يملك النووى ولم يتحالف مع شعب يملك النووى لا يلومن إلا نفسه عندما يعيش ذليلاً أمام ابتزاز المالكين للنووى.

ومن أدوات الأمن الحضارى محلياً كاميرات المراقبة فائقة التقنية التى صارت متاحة لمتوسطى الدخول، وانتشر استعمالها فى بلادنا النامية مؤخراً، وبخاصة فى الشركات والمؤسسات والبنوك والمنشآت الحيوية. وتتنافس كل المصالح فى تأمين ذاتها بتلك الكاميرات التى تكشف هوية المجرمين فى السرقة والقتل والاغتصاب، وهوية الإرهابيين الذين فرغت عقولهم فاعتدوا على أنفسهم بلبس الأحزمة الناسفة أو قيادة السيارات المفخخة، ولتنازلهم عن عقولهم أو تغييبهم لها لا يعرفون حرمة حتى للمساجد وأهلها العابدين أو للمدنيين المسالمين، فكيف بالشعب أن يصل إلى مدبر هذا الإرهاب وصانع هذا الخراب ليقتص منه ويردعه بمعرفة هوية المنفذ له والذى سيكون الخيط الموصل للمجرم الحقيقى المختبئ وراء هلاك الفاعل وتلاشيه فى عملية التفجير أو التفخيخ. إن شبكة كاميرات المراقبة لو كانت تعمل فى تلك الساعة المأساوية لسجلت ترقب المجرم وتحركه واللحظات الأخيرة للمأساة مما ييسر على أهل العدالة عملهم، ولا ينتهى التحقيق للقيد ضد مجهول كما يتمناه المجرمون.

عندما سرق الإخوان وأعوانهم ثورة 25 يناير 2011م تكشفت للمصريين حقيقتهم التآمرية التى أثبتت خيانتهم للوطن الذى سكنوا فيه بأجسادهم بدون قلوبهم المتعلقة بحاكم تركيا ليكونوا من ورائه تبعاً فيما ضحك عليهم واستخف بعقولهم من اسم الخلافة الإسلامية بقيادة من لا ينطق العربية لغة القرآن، ولا ينتسب لقريش المقصور عليهم حق الإمامة برواية أربعين صحابياً، كما قال الحافظ بن حجر العسقلانى، فانتبه المصريون واستردوا حكمهم لأنفسهم فى 30 يونيو 2013م إلا أنهم فوجئوا برد فعل الخونة باستخدام أحدث تقنيات العصر فى التفخيخ والتفجير وإعلانهم شعارهم الشيطانى: «إما نحكمكم وإما أن نقتلكم»، والأغرب أن بعض من نظن فيه العقل والرشاد من شبابنا وفتياتنا منساق وراء وهم هؤلاء الخونة ولا يزال يظن فيهم خيراً، وهنا ندرك خطورة خطابهم المزين لدرجة أنهم سحروا به عقول أتباعهم، كما أخرج البخارى عن عبدالله بن عمر أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن من البيان لسحراً، أو إن بعض البيان لسحراً». وحتى يحبك سحرة الإخوان وأعوانهم ضحاياهم فقد اتخذوا المساجد الطاهرة بأمر الله سبحانه: «وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (البقرة: 125)، اتخذوها وكراً لبث سمومهم، فجعلوا منها «ساعات ضرار» على غرار مسجد الضرار فى عهد النبى، صلى الله عليه وسلم، والذى نزل فى شأنه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» (التوبة: 107-108).

وقد أحسن الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، عندما اجتهد فى صيانة مساجد الله وحمايتها من أن تتخذ ضراراً، أو ساحة للتفخيخ، فاتجه إلى تزويد المساجد الكبيرة بكاميرات مراقبة حتى يبرئ ذمته عند الله فى اتخاذ الأسباب التى تعين العدالة فى رسالتها، وهو بهذا لم ينتهك خصوصية أحد أو حرمته، فالمساجد بيوت الله لجميع خلقه لا خصوصية لأحد فيها؛ كما قال تعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّـهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّـهِ أَحَدًا» (الجن: 18)، والصلاة فى المسجد أو الاعتكاف فيه ليس من الخصوصية؛ لأن صلاة الجماعة قائمة على التكاشف، ودخول المسجد قائم على العلانية فلا تضيره الكاميرات ولا تخرجه عن وظيفته؛ فقد أخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن أبى سعيد الخدرى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». قال تعالى: «إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ» (التوبة: 18). وإذا أراد العابد إخفاء عبادته أمكنه ذلك فى الصلاة والاعتكاف فى مسجد بيته، فقد أخرج أحمد عن بلال أنه جاء إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، يؤذنه بالصلاة فوجده يتسحر فى مسجد بيته.

أما الواهمون بأن الكاميرات فى المساجد تتعارض مع حقوق الإنسان، فإن المنصوص فى المادة (18) من الإعلان العالمى الصادر 1948م أنه: «لكل شخص حرية إقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم جهراً منفرداً أم مع الجماعة»، وهذه الحرية لا تكون إلا بمراعاة مقتضاها، فمن أراد ممارسة شعائر دينية سراً أمكنه ذلك فى بيته، أما أن ينزل إلى المسجد العامر المفتوح أبوابه لكل أحد ويزعم أنه يتعبد سراً، فهذا خداع ومكر خبيث، وصدق الله فى قوله: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (فاطر: 43).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف