معلوم أن الثقافة هي مكون أساسي لأي مجتمع.. إنها ببساطة الحدود الأخلاقية ومجموعة القيم والعادات والتقاليد والقواعد المتوارثة والمكتسبة التي تحكم سلوك الأفراد وتشكل المكونات الأخري للمجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
الحقيقة أن التأثير متبادل بين هذه الأطر الأربعة فما جري من "انحراف سياسي" علي مدي عقود طويلة ألقي بظلال سوداء علي واقع العناصر الثلاثة الأخري وبالإنسان بوصفه الوحدة الأساسية للمجتمع الحامل لتراثه وصاحب السلوك الخاضع لميراثه ومتحصلاته الفلكلورية.. فالحقيقة الثانية ان الثقافة بمعناها الواسع ليست حكراً علي من يسمون بالمثقفين إنما هي ترسم سلوك وتشكل كيان كل فرد في المجتمع أو مواطن في الدولة بل ان الفكر السياسي الحديث الذي انتهي إلي اقرار مبدأ السيادة للشعب جعل من الالتزام بالقوانين المعتبرة ـ في الأنظمة الديمقراطية بالطبع ـ شرطا لحمل صفة "مواطن" بمعني الإنسان بوجهه السياسي صاحب حق المشاركة في الحكم. فلا يجوز أن نقول إن مواطنا قتل أو مواطنا سرق لأنه في هذا الموضع ليس مواطنا إنما مجرد قاتل أو سارق حتي ينتهي القانون من القصاص منه.
ورغم شيوع ملكية الثقافة فإن اعتبارات تنوع طاقات البشر وقدرتهم علي الاستيعاب أفرزت مع ما انتجته من اختلافات طبقية أدباء ومثقفين يمثلون الطليعة في ميدان تأصيل الأفكار وتنقية القيم وتقويم السلوك الإنساني.. إذا المثقف هو حالة إنسانية تمثل طليعة البشر والمرشد والموجه لسلوك مجتمعه حارس لقيمه وتراثه كخلايا الدم تحمل الحياة إلي الأطراف وتحفظ الجينات الوراثية للشخصية الوطنية.. لكن حينما أصيبت الرأس السياسي للمجتمع بفيروسات الفساد واشتد الداء.. تغيرت طبيعة كريات الدم وتحولت إلي أداة جهنمية تنشر المرض وتوهن الجسد.. وطالعنا خونة المثقفين وأدباء السبوبة.. أناسا استغلوا علي بطن خاوية بعضا من مهارات منزوعة الضمير في جني المنافع بترويج الأباطيل وقلب الحقائق وإثارة الغرائز الشهوانية والانتقامية.. بمبررات مزركشة كحرية التعبير والعداء الكوني من المثقفين للسلطة..!
الحقيقة الثالثة ان بعض هؤلاء يستحقون الشفقة.. فما جنوا علي أنفسهم لكن هذا ما نضح به الوعاء النتن.. والحقيقة الاخيرة ان الاستسلام لهذه الحالة المجتمعية هو بمثابة الوقوف خنوعا علي شفا جرف هار.. وحينما ندرك ارتباط التنمية الحقيقية وإصلاح الحاضر وبناء المستقبل للأولاد والأحفاد ارتباطا أصيلا بالخروج من تلك الحالة وإعادة بناء الإنسان الذي علي كتفيه يقوم العمل والإنجاز.. تصبح مقاومة هذا الغث فرض عين علي كل مواطن.. "راجع الحقيقة الأولي".