الوطن
جمال عبد الجواد
الأرزاق بيد الله.. والكرامة بيد الدولة
الأرزاق بيد الله، وهو يوزعها على عباده بمقدار وحكمة. هكذا علمنا ديننا وهذا هو ما استقر فى ثقافتنا. لكن ديننا وثقافتنا يضمنان لكل البشر نصيباً متساوياً من الكرامة، فلا فضل للناس على بعضهم البعض إلا بالتقوى، والصدقات هى حق للفقراء، وليست منة يمنحها القادرون، والحرة تموت ولا تأكل بثديها.
للناس كرامتهم حتى لو كانوا فقراء، وأظن أن أغلب الناس يضعون الكرامة فى مرتبة أعلى من الثراء، فإذا كانت حكومتنا تسعى للاستجابة إلى احتياجات المواطنين، فإن الناس يحتاجون إلى الكرامة أكثر من احتياجهم إلى المنافع المادية، بل إن بعض القادرين لا يشعرون بقيمة ما يمتلكونه من ثروة، لأنهم لا يجدونها كافية لحفظ كرامتهم وصونها، وهذا هو ما يجب على الحكومة أن تساعدهم عليه.
حكومتنا تشغل نفسها كثيراً بتحسين الأداء الاقتصادى ورفع معدلات النمو، لكنها لا تبذل جهداً مماثلاً لصون كرامة الناس وحفظها، وربما كان هذا الخلل واحداً من أسباب ما نلاحظه من عدم زيادة شعور الناس بالرضا عن الأداء الحكومى، رغم ما قد يحظون به تحسُّن فى مستويات معيشتهم، وهو بالتأكيد أحد أسباب انقلاب الشعب على نظام الحكم فى يناير 2011، الذى جاء بعد عدة سنوات متصلة من النمو الاقتصادى المرتفع.
هل نتذكر حديث أحمد عز عن تحسّن مستويات معيشة المصريين؟ هل نتذكر حديثه عن الزيادة فى عدد أجهزة التكييف والتليفون المحمول كدليل على ذلك؟ لم يكن أحمد عز يكذب، فمستويات معيشة المصريين كانت فى تحسّن، وزيادة الاستهلاك هى أحد مؤشرات ذلك. لكن ما أخطأ فيه أحمد عز وشلته هو اختزالهم النجاح والفشل فى معدلات الأداء الاقتصادى والرفاهية المادية، فيما أهملوا أهمية شعور الناس بالكرامة.
الكرامة شعور معنوى له مظاهر كثيرة، ويمكن للناس أن يشعروا بالحط من كرامتهم لأسباب عدة. فخطة توريث الحكم لابن الرئيس كانت سبباً فى شعور الكثيرين بجرح فى الكرامة، وقد سمعت كثيرين يقولون «لن نشعر أننا رجال إذا تمكن جمال مبارك من رئاسة مصر»، فهل فكر جمال مبارك وأحمد عز فى هذا المعنى؟ راهن جمال مبارك وأحمد عز على انصراف المصريين عن السياسة، وعلى أن المنزعجين من التوريث قلة قليلة، لكنهم لم يتخيلوا ما الذى يمكن لقلة لديها شعور عميق بالإهانة أن تفعله.
المنصرفون عن السياسة الذين لم يفكروا فى جمال مبارك كثيراً كانت لديهم أسبابهم للشعور بالكرامة المهدرة، فكانوا وقوداً للاحتجاجات التى انتهت بإسقاط النظام. التزاحم المهين فى مكاتب السجل المدنى والتموين وتراخيص السيارات والتصديق على الوثائق فى وزارة الخارجية، كلها مناسبات يشعر فيها المواطن بجرح فى الكرامة. الوجه العابس والمعاملة المهينة التى يلقاها المواطنون من موظفى الحكومة تجرح الكرامة. التدافع والتحرش والجرى بأقصى سرعة للحاق بوسيلة مواصلات تنقلك إلى بيتك أو مقر عملك يطعن فى الكرامة. الشتائم التى يوجهها رجال شرطة إلى مواطنين، ولو كانوا مجرمين، تجرح الكرامة. أن يجد المواطن بيته محاطاً بأكوام الزبالة وكأنه أصبح هو نفسه وبيته وعائلته جزءاً من هذه الزبالة يجرح الكرامة. عجز المواطن عن حماية حياته الخاصة من الجيران فى البيوت المتلاصقة والحوارى الضيقة يطعن فى الكرامة، أن يدفع المواطن، صاغراً، إتاوات لبلطجية متجبرين أو لموظفين هم للبلطجية أقرب فيه طعن فى الكرامة.
تختلف حظوظ الشعوب من الثروة، فبعضها تهبط عليه الثروة من السماء أو تتفجّر من باطن الأرض، وبعضها الآخر ورث ثروات ترتبت على عصور الاستعمار، وبعضها الآخر قدر له حكومات رشيدة فى وقت مبكر، فحولت فقره إلى ثراء، وجهله إلى علم. شعب مصر ليس من بين هؤلاء، فلا الثروة تهبط علينا بغير حساب، وليس لنا مستعمرات سابقة نعيش على ما نهبناه من مواردها، ولم يقيد الله لنا حكومات رشيدة تخرجنا من حال إلى حال، والنتيجة هو ما نحن عليه من فقر يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل الجاد للتغلب عليه.
التحديات الاقتصادية التى تواجه مصر صعبة، وليس من الواقعية فى شىء أن نتصور خروجاً سريعاً لأغلب المصريين الفقراء من ضرورات الحاجة إلى رضا الستر، ومنه إلى بحبوحة الثراء. ومع كل الأمل الذى تطلقه الجهود المبذولة من جانب الرئيس والحكومة، فإنه من غير المنتظر أن يشعر الغالبية من المصريين بتحسن فى أوضاعهم الاقتصادية خلال الفترة القصيرة المقبلة. لكن حكومتنا -رغم كل هذا- تستطيع فى فترة قصيرة أن تحقق تحسناً ملحوظا فى حياة المصريين، ليس عن طريق تحسين ظروفهم الاقتصادية، لكن عبر تحسين شعورهم بالكرامة.
الحكومات لا تشغل نفسها بمسألة كرامة المواطن لأنه لا يمكنك قياس مدى شعور الناس بالكرامة، فبينما تستطيع الحكومات قياس معدلات النمو بالجنيه والدولار، فإنه لا يوجد لدى الحكومات وحدة لقياس الشعور بالكرامة، ولهذا لا تستطيع الحكومات استحداث منصب وزارى جديد مختص بشئون الكرامة، وفى بلد تهيمن فيه البيروقراطية على كل شىء، فإن غياب وزير مسئول عن الكرامة يؤدى إلى إهمالها وإهدارها، ويهدر معها أثر التحسن الذى يحدث فى مستويات المعيشة المادية.
الحفاظ على كرامة الناس وتعزيز شعورهم بها هو فلسفة وطريقة فى ممارسة الحكم دون حاجة إلى وزير مختص بشئون الكرامة. إنها الهدف الدائم والكامن وراء الأداء الحكومى فى كل مجالاته، أو هكذا يجب أن تكون الأمور، فهل نشهد تغييراً فى فلسفة الحكم والإدارة يضع كرامة المواطن فى موقع القلب من الأداء الحكومى؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف