في الليلة نفسها كان الإعلام المصري مشغولا جدا، في وقت الفراغ بين انفجارين، بقضية لاعب كرة، وإعلامي تم حبسه في قضية «نفقة» زوجية
فأمروا به، فأخذوه وعذبوه، وقطعوا أطرافه، ثم ضربوا عنقه، وعلقوه علي سارية، ورأسه بين قدميه، وقد تشحط في الدم (تضرج به)، ليكون عبرة لمن لا يعتبر» ! هذه الفقرة الدموية ليست منقولة من كتب التاريخ العربي القديم،، وإنما لم أجد لغة يمكن أن تصف ما جري لعالم الآثار السوري «خالد الأسعد»،علي يد الدواعش، إلا هذه اللغة الخارجة من الكتب القديمة، تماما كالقاتلين الخارجين- الخوارج من أحط عصور التاريخ العربي. هذه هي لغتهم وما سيكتبون به تاريخهم، وهذه بنية عقولهم، وعقول من يتمسحون بهم، ومن يخفون خناجرهم وراء ظهورهم، فقبل أيام قليلة أذاعت وكالات الأنباء خبر مقتل «خالد الأسعد»، الشيخ البالغ من العمر أكثر من ثمانين عاما! بعد اختطافه لمدة شهر، وتعذيبه، ليكشف للدواعش عن مخابئ الآثار، ليسرقوها كأي لصوص آثار، ولصوص أديان وحضارات، لكن الشيخ صمد، فذبحوه، وبعد ذبحه علقوا جثته علي عمود في الطريق العام بتدمر، (كان قد أشرف بنفسه علي ترميمه) مع لائحة بالاتهامات المكتوبة بخط اليد البدائي، وبالحبر الأحمر، وفي أعلي اليافطة كتبوا»المرتد خالد محمد الأسعد»! ومن بين الاتهامات: «أنه يمثل سوريا في المؤتمرات «الكفرية»! في الليلة نفسها كان الإعلام المصري مشغولا جدا، في وقت الفراغ بين انفجارين، بقضية لاعب كرة، وإعلامي تم حبسه في قضية «نفقة» زوجية! علي الجانب الآخر بدت القنوات الإسلامية المبثوثة من الخلافة العثمانية مشغولة بتبادل السباب مابين الشيخ محمد عبد المقصود، من «مكمنه» في تركيا، والشيخ «ياسر برهامي»، من الإسكندرية، عروس البحر الأبيض المتوسط، سابقا، لم ترد إشارة للحدث، أو حتي إدانة لمجرد تبرئة الإسلام - الذي يتحدثون باسمه- وسط تبادل ألفاظ (أظن أن الجريدة ستحذفها فلا داعي لكتابتها، وسأتركها لخيال القارئ) بين عبد المقصود بجلبابه ناصع البياض، لايكدر بياضه إلا «المايك»، الأسود للأسف، ينظر في ساعته بين لحظة وأخري (حيث يبدو أن لا ساعات في الإستديو الجاهلي)، ويحك جلده بين لحظة وأخري، وأمامه كوب من الشاي، الكشري فيما يبدو، يدعو لاختيار «زعامة جديدة» للثورة، وقد صبغ منابت شعر لحيته بالحناء، وهو ما غيره في الحلقة التالية «كنيو لوك» مهيب، بشعر ناصع البياض لا يكدر صفاءه إلا خصلة سوداء، ليكون جديرا، بمثل هذه الهيبة، بكيل السباب، مختتما كل وصلة منه: بقال تعالي، وجاء رجل إلي الرسول (صلي الله عليه وسلم)..إلخ. مفحما بسبابه سباب الشيخ القاطن في الإسكندرية له (والمتخوف، فيما بدا لي من سياق «السبابين»، من صراع علي الزعامة يبث من تركيا!) وهو الذي يدير، من وراء، وأمام، الستار حزبا سياسيا شهيرا! علي مواقع التواصل بدا مقتل العالم الأثري خبرا مقتضبا، كأنه محض دليل جديد لا غير، علي توحش داعش، واستدعي، من بين ما استدعي، بعض الذكريات الأليمة عن مذابحها، لمن يتسمون بالجدية، وثرثرة من الذكريات الباعثة علي السخرية؛ كذكري ما توعّدنا به الشيخ السلفي، محطم التماثيل في أفغانستان، بهدم الأهرامات، وفي سياق ذبح العالم الأثري انهالت النكات، لتذوب الحادثة في حبكة «القفشة»، ولتبدو الحوادث محض تفاصيل متفرقة، نثرثر بها بعد أن سال جبل الجليد العربي، وأسال معه شعوبا وأنظمة وحدودا، وقضايا بدت- ذات يوم ليس ببعيد- قضايانا، منذ أن ترامت أصداء صرخات «بوعزيزي» في العالم العربي كله، وحتي آلت كرة النار إلي رماد يكنسه كل منا عن أعتاب بيته، فندير القنوات عن مذابح الأنظمة في وطننا العربي، كأنه مسلسل سخيف يعاد عرضه، ليوقظنا من غفلتنا تفجير كالذي حدث من يومين، فننسي لاعب الكرة والإعلامي، والقفشات، كأن داعش صارت تجمعنا! لا الدم السائل كل يوم هناك، الدم الذي يفيض علي «ثرثرتنا»، الدم الذي «يشبهنا»، والذي لا يمكن أن يصير مجرد «زجاجة حبر» يغمس فيها قتلة الشعوب أقلامهم ليخطوا لنا تاريخا مضروب العنق، مقطع الأطراف!