كمال الهلباوى
ذكريات ودروس من أفغانستان
تلقيت دعوة كريمة من السفير المفضال / فضل الرحمن فاضل، سفير جمهورية أفغانستان الإسلامية بالقاهرة، لحضور الاحتفال بالذكرى السادسة والتسعين لعيد استقلال أفغانستان، مساء يوم الأربعاء الماضى 19 أغسطس 2015.
فرحت بالدعوة وبالحضور وبالمشاركة بكلمة مقتضبة، وفق ما يقتضيه المقام، ولكن الذكرى أثارت عندى العديد من الذكريات الجميلة، وبعض الذكريات الأليمة.
أفغانستان من أكثر البلاد الفقيرة المتخلفة عن العصر، حسب تقارير الأمم المتحدة، وحسب الواقع الملموس، نراها تقف فى وجه الغزو السوفيتى،ولا تقبل الاحتلال، ولا حتى حكومة وطنية يدعمها الاحتلال والقوى الخارجية. سيطر الشيوعيون على مقاليد الحكم فى أفغانستان فى إبريل 1978، بعد مجازر عديدة استهدفت العلماء خصوصا والأسر الكبيرة عموما، وكل المقربين من الملك ظاهر شاه، الذى حكم أفغانستان 40 سنة بالتمام والكمال (من 1933- 1973) ولم يشبع، شأنه شأن القذافى وأمثاله من الملوك والرؤساء والسلاطين. فزادت أفغانستان فى عصره تخلفًا، وكان من الضرورى الثورة عليه، وعلى التخلف المرافق له ولحكمه.
الذى ثار على الملك ظاهر شاه فى سنة 1973، ابن عمه وصهره السردار محمد داود، ولم يكن أحد غيره يستطيع ذلك فى الوقت نفسه.استفاد الشيوعيون والإسلاميون من التغيير المفاجئ فى أفغانستان، ولكن الشيوعيين كانوا أقدر على الزحف والسيطرة على مؤسسات الدولة الضعيفة، وفى مقدمتها المؤسسات التعليمية والأمنية والعسكرية والاجتماعية والصحية وغيرها، وانشغلت الحركة الإسلامية بالخلافات والانشقاقات الداخلية، والبحث عن مساعدات خارجية ولو معنوية خشية وصول الشيوعيين إلى الحكم. أما الشيوعيون فكانت المساعدات الأجنبية مضمونة وبجوارهم رغم خلافاتهم الحادة.
ولقد شاهدت بنفسى فى أوائل السبعينيات، البروفيسور برهان الدين ربانى يحذر من المستقبل الدموى فى أفغانستان، ولكن العرب خصوصًا والمسلمين عمومًا فى ذلك الوقت، كانوا يعيشون الحاضر والخلافات والنزاعات والديكتاتوريات التى قال عنها نزار قبانى «لم تقتل حتى ذبابة»، والتى قال فى وصفهم أيضًا « فى العالم العربى يحتاج العالم ثوبا وترقص فى الحرير القحائب».
لم يلتفت العالم العربى إلى تنبيهات وتحذيرات / ربانى التى رأس أفغانستان فيما بعد هزيمة الاتحاد السوفيتى،ولكن طالبان وبمساعدة أمريكية باكستانية، أقصوه عن الحكم بتهيئة طالبان التى انقلبوا عليها فيما بعد، وبدأ الصراع بين الإسلاميين وبعد هزيمة الشيوعيين. حقا» كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ»، سواء أكان هذا الاستغناء بالسوفييت أو الأمريكان أو غيرهما من القوى المادية القاهرة، إذ أن الله تعالى «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ». لا يدرك ذلك إلا القليل. الذكريات تتزاحم وتتسابق، مما يجعل الكتابة أو الاستخلاص صعبًا.
قد تكون أفغانستان من أكثر الدول التى غطت أرضها الدماء - أكثر من 2 مليون شهيد وقتيل- وأكثر من 6 ملايين مهاجر داخلى وخارجى من مجموع سكان لا يتجاوز 20 مليونًا فى السبعينيات من القرن الماضى، وكانت أفغانستان ولاتزال من أفقر البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وأكثرها دموية، وبعد بلد المليون شهيد، أقصد الجزائر.
فى ظنى أن الأفغان ربحوا حريتهم بتحرير الوطن من الغزو السوفيتى وهذا هدف نبيل فالحرية أساس. وقد شاهدت مقصود أمير الشعراء شوقى وللحرية الحمراء باب، ولكنهم كانوا أقل الناس استفادة من الحرب أو القتال أو الصراع أو الجهاد، كل حسب ما يراه من أسماء لاتغنى عن الدماء التى أريقت وسالت على تلك الأرض الطيبة. نعم كانوا أقل الناس استفادة من الحرب فى عملية البناء.
بعد الثورة أو الانقلاب الشيوعى ضد السردار داود الذى حكم فى المدة من (1973/ 1978) حكم الشيوعيون كابل بصعوبة بالغة ودماء كثيرة واعتقالات وسجون حتى وقع السوفييت فى المصيدة الغربية التى لا ترحم أحدًا، فاحتلوا أفغانستان فى ديسمبر 1979 لتثبيت دعائم الحكم الشيوعى، والاقتراب من المياه الدافئة والبترول الخليجى.
احتلوا أفغانستان بمائة ألف جندى فعاثوا فى الأرض فسادًا وتقتيلًا، وتدخل الغرب سريعًا فى أواخر حكم الرئيس كارتر، الذى استحث العرب والمسلمين على مواجهة الاتحاد السوفيتى والشيوعيين فى أفغانستان، ولم تستطع الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن، ولم يرغبوا، فى حل الصراع سلمًا ودون قتال أو تدمير، حيث إن أمريكا - بدراساتها المستقبلية - ستكون أكبر المستفيدين من هذه الحرب الشرسة، وقد كان الدرس واضحًا منذ البداية، ولكن العقل العربى والإسلامى والأفغانى، كان مغيبًا فى أكثر الأحيان بل كان تابعًا غير مستقل.
سهلت كل الدول العربية ماعدا الاشتراكية منها - مثل عدن - لكل من أراد الاشتراك فى الجهاد الأفغانى (الصراع)، بالدعوة للجهاد فى الاعلام، والنقل بالطائرات، وتشجيع هيئات الإغاثة، وفتح دور ومكاتب ومؤسسات للإغاثة فى الدول المجاورة لأفغانستان، وخصوصًا مثل باكستان وايران، ودفع رواتب مجزية بالدولار للعاملين بالاغاثة، والمؤجحين والمشتركين فى الصراع.
كان « المجاهدون» العرب خصوصًا، يعيشون أمل دولة الخلافة الإسلامية، رغم أن السلاح الذى كانوا يحاربون به كان غربيًا فى الغالب الأعم وخصوصًا صواريج استنجر، ماعدا أسلحة قليلة مثل صواريخ صقر عشرين المصرية، إشباعًا للرغبة الأمريكية آنذاك، وهى الأسلحة التى لم يحصل عليها المجاهدون الفلسطينيون رغم حاجتهم الشديدة إليها لتحرير فلسطين وهى الدولة الأخت فى قلب العالم العربى، وفيها المقدسات التى دنستها الصهيونية والكيان الإسرائيلى المحتل المجرم. ولكن أمريكا لها رأى آخر ونحن أحيانا نكون من قوم «تُبع».
كنت وقتها أتعجب، رغم إيمانى الشديد بالوحدة العربية والإسلامية، هل تبدأ الخلافة الإسلامية فى أفقر البلاد وأكثرها تخلفًا فى زمن العلم وتقدم الحضارة؟ وتعيش تلك الخلافة المنتظرة على حضارة الغرب ومساعدات الغرب، وتقدم النموذج فى الاستيراد حتى فى مجال الأمن والسلاح؟
هذه الطريقة فى التفكير والتعبير، لم تكن تعجب «المجاهدين» ولن تعجبهم حتى اليوم، وقد دفعت تلك الآمال الخيالية التى ليس لها سند من الواقع إلى تكوين جماعات مثل القاعدة للبدء من أفغانستان المفتوحة إلى العالم العربى المغلق. وهى نفس الآمال الخيالية التى تعيش عليها «داعش»، حتى تفاجئها الحقائق المادية على الأرض، فتفهم الواقع بعد أن يتغير إلى واقع جديد غير مفهوم لهم. فدراسة المستقبل وتوقعاته تحتاج إلى عقول واعية، وقلوب مبصرة، وهمة عالية، ولا تحتاج إلى صراع أو جهاد بسلاح مستورد.
دائما ما أتذكر كلمات حكيمة من الحكماء والناصحين والمغبونين، ومنهم الشيخ إمام عيسى، وهو يغنى للنجم بكل الإحساس والألم الواضح فيقول :
سألت شيخ الاطباء *** سيب الجراح اللى فيه
نظر لى نظرة محبة *** وقال دوايا فى ايديه
هل مع هذه الحكمة استيراد، لما يمكن أن نصدره؟ وإلى استكمال الموضوع والدروس. والله الموفق.