شعبان يوسف
عندما التقى صلاح عبد الصبور ونزار قبانى لأول مرة
هناك إشاعة تقول بأن الأدباء المصريين ليسوا مهتمين بالأدباء العرب، ودومًا نجد الأصدقاء الكتّاب العرب يرسلون الحجة بعد الحجة لتثبيت تلك الإشاعة فى الأذهان، وأنا لا أريد أن أنفى الإشاعة بشكل كامل، ولكننى أريد أن أقول إنها ليست صادقة تمامًا، وليست كاذبة تمامًا، وهناك شواهد لإثباتها، وكذلك هناك شواهد لنفيها، وجدير بالذكر أن وشائج التواصل تخفت أحيانًا، وتتوطّد أحيانًا، وربما تختفى فى فترات حادة، مثل الفترة الساداتية، خصوصًا بعد عقد اتفاقية «كامب ديفيد» مع الكيان الصهيونى، وتم نقل الجامعة العربية من القاهرة إلى العاصمة التونسية، ثم تكوين «جبهة الرفض العربى»، هذه الجبهة التى شملت عددًا من البلدان العربية.
كان هذا الرفض على المستوى الحكومى و النظامى ، ولكن الثقافة كانت تعمل بعيدًا عن تلك الخزعبلات والزوابع السياسية، التى لا تختصر العلاقات الشعبية والثقافية الحرة، ولا تخضع لقيود من هنا أو من هناك، وهذه العلاقات الحرة ما زالت تعمل تحت تحذيرات واستخبارات بأشكال مختلفة.
وفى ظل مثل هذه القيود المفروضة على المثقفين والكتّاب، والتجسس على ما يكتبون وينشرون فى هذا القطر العربى الخصم، وتلك المجلة التى تصدر من دولة لسنا على وفاق معها، أو الظهور فى تليفزيوناتها، نجد مثقفين وكتّابًا أحرارًا، لا يأبهون بمثل هذه القيود المؤقتة، والمصنوعة فى غرف القادة والسادة الذين يفسدون -أحيانًا- دفء العلاقات التاريخية العربية الوطيدة.
وهناك آفة أخرى بعيدة عن التجاهل والإهمال، وهى آفة تلخيص كتّاب بلد فى روائى واحد يظل موجودًا بشكل دائم، ولا يتردد سوى اسمه، رغم أن هذا البلد ينتج يومًا بعد يوم كتابًا وشعراء ومسرحيين وفنانين طوال الوقت، وهذا حدث فى حالة السودان، عندما اختصرنا كتّابهم وشعراءهم فى محمد الفيتورى والطيب صالح، وظل الاسمان يترددان حتى الآن، رغم تجاوز الحالة الثقافية السودانية للكاتبين الكبيرين، كذلك اختصرنا القُطر الليبى فى إبراهيم الكونى، رغم أن الكونى صناعة قذّافية بامتياز، بعيدًا عن موهبته الواضحة، وكتابته المرموقة، ولكن المجتمع الذى صنع الكونى صنع غيره، ولكن دولة القذافى شملت هذا الكاتب برعايتها دون آخرين، بل عملت على تغييب هؤلاء الآخرين بطرق قمعية واضحة.
وإذا كانت هناك لحظات انحسار للاهتمام بالظواهر الثقافية العربية، فهناك لحظات انفراج عظيمة، وتكون الدولة مساهمة بشكل واضح، وتمد يد العون بجدارة، وذروة هذا الانفراج نجدها فى عام 1958، بعد إعلان الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا فى فبراير 1958، وأُقيمت مؤتمرات فى القاهرة ودمشق، وقرأنا كتابات نقدية لكتّاب مصريين عن كتّاب سوريين ولبنانيين، وحدث العكس كذلك، ولاحظنا ارتفاع وتيرة النشر بين البلدين، للدرجة التى نجد فيها أن نجيب سرور ينشر كتابه تأملات فى ثلاثية نجيب محفوظ فى مجلة الثقافة الوطنية اللبنانية، بواسطة الكاتب محمد دكروب، ونجد محمد دكروب نفسه ينشر كتاباته فى مجلات قاهرية، وكذلك نشر الكاتب حنا مينا روايته الأولى المصابيح الزّرق فى القاهرة، وكتب عنها الناقد محمود أمين العالم وآخرون.
فى هذا السياق، كتب الشاعر صلاح عبد الصبور دراسة ممتعة فى مجلة صباح الخير بتاريخ 6 فبراير 1958، أى فى الشهر الذى أُعلنت فيه الوحدة بين مصر وسوريا، وكان عنوان مقاله شعراء وكتّاب من سوريا ، قال فى بدايته: فى كل لقاء بإخواننا المواطنين العرب، كانوا يعتبون علينا أننا لا نهتم بأدبائهم وكتابهم وثقافتهم، مثل اهتمامهم بأدبائنا وكتابنا وثقافتنا.. وكان أَصْفَى هذا العتب وأعْنَفه فى ذات الوقت هو عتاب مواطنينا ساكنى سوريا، وأذكر أن نبرات هذا العتاب كانت تتردد كثيرًا فى المؤتمر الأخير للكتّاب العرب .
وبالفعل كان هذا الاتهام هو ما يتردد دومًا، وهناك ما يبرره، ولا يجد المتهم ما يدفعه به، فهم بالفعل يعرفون طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وغيرهم من الكتاب، وفى المقابل فهناك جهل ما بأسماء كثيرة هناك، رغم وجود أدباء وشعراء بارعين، ولهم آثار أدبية عظيمة، والكتابة عن هؤلاء الكتّاب ليست منحة يبذلها المصريون، ولكنها ضرورة، عليهم أن لا يهملوها.
لذلك ألزم عبد الصبور نفسه بالبدء فى قراءة أدباء سوريا فى هذه الدراسة، إذ تناول فيها عددًا من السوريين، وعلى رأسهم الشاعر نزار قبانى، الذى كان اسمه يطوف البلدان العربية، وكان قد حقَّق بعضًا من الرواج والانتشار فى ذلك الوقت، ولم يقتصر عبد الصبور على أن يكتب نقدًا عنهم فقط، بل إنه تطرَّق إلى بعض الذكريات التى تجمع بينه وبين بعض الأدباء العرب، إذ يقول: ومن أجمل ما اقتنيت من الذكريات لقاء لى بثلاثة من أدباء سوريا الشباب، كان اللقاء الأول مع الشاعر الكبير نزار قبانى، وكنت إلى ذلك الحين أعرف نزارًا من قصائده الجميلة التى تُنشر فى الصحف الأدبية، ومن دواوينه التى كرَّمنى فأهدى إلىَّ بعضها على غير معرفة لقاء، وذات يوم كنت فى عملى فى المجلة حين دق جرس التليفون وسمعت صوتًا يقول: أنا نزار قبانى.. وتواعدنا أنا ونزار على لقاء، وحين رأيته لأول وهلة كانت الصورة التى تخيلتها عنه هى تمامًا صورته، قامة عربية ممشوقة، وملامح متناسقة، وعينان متأنقتان، وبساطة رائعة ومحببة، وسهرنا تلك الليلة سهرة شعرية طويلة فى مكتب الصديق الكبير الشاعر كامل الشناوى .
وراح عبد الصبور يسترسل فى وصف اللقاء الذى حدث بينه وبين نزار، مع الحديث عن شعره بمحبة، أما الشاعران الآخران اللذان التقاهما عبد الصبور، فكانا شوقى بغدادى -أمدّ الله فى عمره- والشاعر عمر أبى ريشة، يرحمه الله، ولهما حديث آخر، بإذن الله.
مقالات التحرير