طارق الشناوى
برلين كلاكيت أول مرة.. السياسة والسينما والبرد وأشياء أخرى!!
مهرجان برلين أراه دائما أقرب إلى بورتريه تتجسد خطوطه وتفاصيله وظلاله وألوانه من خلال السينما التى شاهدتها، وتحديدا فيلم يوسف شاهين، الذى يرصد فيه كثيرا من ملامح سيرته الذاتية، ويضع عددا لا بأس به من المواقف حول علاقته بالمهرجانات، وما يجرى فى كواليسها، أتحدث عن «حدوتة مصرية»، الذى يمثل الجزء الثانى من رباعية شاهين، الأول «إسكندرية ليه» والثالث «إسكندرية كمان وكمان» والرابع «إسكندرية نيويورك».
بالطبع كل أفلام شاهين تحكى عن شاهين، ولكنه فى أفلامه الأربعة يضع سنوات عمره تحت مجهر السينما، وهى لا تقدم تتابعا زمنيا له، فهى تتحرك زمنيا، كأنه زجزاج صعودا وهبوطا، لأنه مثلا فى الجزء الرابع لا ينسى أن يعود مجددا للبدايات، وفى كل الأحوال هو يوسف شاهين كما يحب أن يراه الناس.
مهرجان برلين يشكل لشاهين أول إحباط أو للدقة أكبر إحباط عالمى، وفى نفس الوقت بعدها بنحو عشرين عاما صار بالنسبة إليه أكبر اعتراف دولى، الهزيمة جاءته بسبب عدم حصوله على جائزة المهرجان عام 58 بفيلمه باب الحديد ، وكما يحدث فى الكثير من الأحيان تتسرب النتائج وأحيانا الإشاعات قبل ساعات قليلة من الإعلان الرسمى، وكانت الشائعات أو الحقائق كما يؤكد شاهين قد رشحته للجائزة، وبالطبع الجائزة تعنى الكثير لمصر ولشاهين، الفيلم يقول إنها الحقيقة الموثقة، وإنها مؤامرة مقصودة، لأنه كمصرى لديه وجهة نظر مغايرة لهم، وينتمى إلى فكر ثورى قاده الزعيم جمال عبد الناصر، وكنا فى أعقاب العدوان الثلاثى 1956، وهناك بالطبع إحساس يملأ كل المصريين بالنصر والزهو أيضا، وتم زرع صورة ذهنية فى الضمير الجمعى المصرى، تؤكد أن الغرب كله يرفضنا وعلينا أن نتصدى له.
الوجه الثانى لبرلين هو فيلم إسكندرية ليه ، وذلك بمنحه الجائزة الأهم لمخرجنا الكبير بل وللسينما المصرية كلها، وهى جائزة الدب الفضى لجنة التحكيم عام 79، فى تلك الدورة الاستثنائية فى تاريخ برلين، التى شهدت منازعات بسبب الفيلم الأمريكى صائد الغزلان ، والكثيرون وقتها أعدوا الفيلم معاديا للتحرر الوطنى، وخلطوا السياسة بالفكر، وانسحبوا احتجاجا على إدارة المهرجان، ولكن شاهين لم يشاركهم الغضب ولم ينسحب وواصل جدولة الفيلم طبقا لما حددته إدارة المهرجان، وكان يوسف يرى أن عليه أن لا يتنازل عن العرض تضامنًا مع المحتجين، وحصل فى النهاية على الجائزة، وبالطبع البعض يجد الفرصة مواتية للتشكيك فى عدالة الجائزة، ولكنه فى الحقيقة يستحقها فنيا بعيدا حتى عن التفسير السياسى، سواء بسبب موقفه من العرض بالمهرجان أو لأنه يقدم شخصية اليهودى فى الفيلم بملامح إيجابية، تتجاوز تلك النظرة النمطية التى دأبت عليها الأفلام المصرية، وهى نقطة فارقة جدا فى التقييم، ولكن لا تزال قناعتى أن الفيلم يستحق كل هذا التقدير، ودائما فى كل الاستفتاءات العربية لأفضل 100 فيلم يحتل مركزًا متقدمًا.
ستظل المهرجانات ساحة مفتوحة للصراع السياسى، فهى وأقصد المهرجانات الثلاثة الكبرى، ومنذ انطلاقها كانت تعبر عن تلك المواقف، فهى نتاج الحرب والصراع المدمر فى الحرب العالمية الثانية بين المحور و الحلفاء ، وإذا كان الطاغية الإيطالى موسولينى هو الذى أطلق إشارة البدء للمهرجانات العالمية بمهرجان فينسيا البندقية، قبل نشوب الحرب، فإن مهرجانى كان الذى انطلق رسميا 1946 وتأخر بضعة أعوام بسبب ظروف الحرب وبعده برلين 1951، هما نتاج ثقافى لما بعد الحرب، أو ما اصطلحنا على تسميته الحرب الباردة، وهى تعنى استمرار الصراع بوسائل أخرى وعلى رأسها بالطبع السينما.
كل شىء يلعب بقانون السياسة، ولكن المهرجانات نجاحها فى الحقيقة يتوقف على قدرتها على ضبط النفس، حتى لا تقع فى براثن السياسة وحساباتها الوقتية، حيث إن عدو اليوم من الممكن فى ظل معادلة أخرى أن يصبح هو صديق الغد، وكم من مرة شاهدت مثلا فى مهرجان كان مظاهرات تحيط قصر المهرجان بسبب اعتراضهم سياسيا على فيلم ما، ولكن إدارة المهرجان لا تعلن الاستسلام والخضوع لامتصاص مشاعر الغاضبين.
وتظل بالنسبة إلىَّ متابعة المهرجانات السينمائية العالمية هى الهواية الأولى، ولكن أن يتابع الناقد كل مهرجانات الدنيا فهو المستحيل بعينه، حتى الثلاثة الكبرى كان و فينسيا و برلين ، لأن هناك أيضا مهرجانات عربية ومحلية تستحق المتابعة، وأغلب النقاد المصريين والعرب اختاروا منذ البداية كان ، وهكذا وجدت نفسى أسير على الدرب، ووصل رصيدى إلى 25 مرة كان ومرات قليلة فينسيا وهذه كلاكيت أول مرة برلين .
فيلم الافتتاح الإسبانى لا أحد يريد الليل إخراج إيزابيلا كواكيست، وبطولة أيقونة السينما الفرنسية جولييت بينوش، وينتمى الفيلم إلى تلك المعضلة الشهيرة الثالوث الدرامى، امرأتان تتصارعان على رجل واحد، ولن أتمكن من الكتابة عن الفيلم، لأننا مرتبطون فى الجريدة بتوقيت زمنى لتسليم المقالات قبل الواحدة ظهرا بتوقيت مصر، وهو تحديدا موعد عرضه للصحفيين والنقاد، ومن الأفلام التى تترقبها مع فيلم المسابقة 22 فيلما آخر من بينها آينشتاين فى جوانخواتو هولندى مكسيكى بلجيكى وفنلندى مشترك، عن حياة واحد من أهم بناة السينما فى العالم، وهو الروسى سيرجى آينشتاين، الذى كان ولا يزال يشكل منهجه قيمة إبداعية وفكرية لدى كل المهتمين بالدراسات السينمائية فى العالم كله، وهناك أيضا فيلم أفيرم للمخرج الرومانى رادوجود عن حياة الغجر، وفيلم تاكسى للمخرج الإيرانى جعفر بناهى، الذى لا يزال ينطلق فى المهرجانات الكبرى، ولا تزال المهرجانات تحتفى به، وقد عرض له كان قبل ثلاثة أعوام رسميا وخارج المسابقة فيلما عنوانه هذا ليس فيلما ، يسخر فيه من قرار المحكمة التى تمنعه من ممارسة مهنة الإخراج 20 عاما، فقال لهم هذا ليس فيلما، وفى فيلمه الجديد تاكسى يقدم وجهات نظر إيرانيين عن أحوال البلد، وفى العادة يستعين جعفر بمخرج منفذ أو أحيانا مشارك لتنفيذ الفيلم، ولا أدرى بالطبع ماذا سيفعل فى فيلمه الجديد، وفى الغالب سيستعين بناهى بمساعد له فى تنفيذ الديكوباج تقطيع اللقطات ورسم الحركة للممثلين، وهى تجربة بالتأكيد تحمل دلالة، وهى أن المهرجانات فى العالم كله تقف دائما وهى تساند الحريات، الفيلم يعرض ظهر اليوم، وكان بناهى قد حصل على أول جائزة ذهبية له الدب من برلين قبل 9 سنوات عن فيلمه أوفسايد .
للسينما العربية تظاهرة غير رسمية على هامش المهرجان وهى مركز السينما العربية ، الذى يشرف عليه الزميل الناقد علاء كركوتى.
ويبقى أن هذه هى المرة الأولى التى أذهب فيها إلى أوروبا فى عز الشتاء، حيث تتناقص الحرارة درجات تحت الصفر، وهذه قصة أخرى.