عندما قمت بمعركة شرسة ضد مشروع توشكي- وقبل أن يبدأ- وذلك في تسعينيات القرن الماضي، كانت حجتي عدم وضوح الرؤية وخطأ التوقيت ثم الخوف من إهدار نتائج الإصلاح الإقتصادي الذي نفذه الدكتور عاطف صدقي، رحمه الله.. وكان من أهم أسباب حملتي علي المشروع: التكاليف المالية الباهظة وفي مقدمتها مئات الملايين من الجنيهات علي إنشاء أكبر محطة رفع للمياه في العالم، ومئات أخري من الملايين لحفر الترعة التي ستنقل المياه من محطة الرفع إلي أرض المشروع.
<< يومها قلت: لماذا هذه التكاليف وهي حوالي مليارين من الجنيهات- بأسعار زمانها- وعندنا يمكن استغلال الخزان الجوفي النوبي المصري، الذي يبدأ من بحيرات وسط إفريقيا الاستوائية ومنابع النيل.. هنا اكتشفت أن علماء مصر- بالذات في المياه الجوفية- يتفقون ويختلفون، في نفس الوقت فهم يتفقون علي أن هذا المخزون غير متجدد.. وأن مياهه موجودة منذ آلاف السنين، وتعويضها يتم عبر مئات السنين.. والخوف هنا من اننا لو أسرفنا في استخدام هذا المخزون، فقد نكتشف اننا سوف نخسره إلي الأبد.
ولكن العلماء اختلفوا علي عمر استخدامنا لمياه هذا الخزان، البعض قال 200 عام، وربما أقل، والبعض قال بل 500 عام.. هنا قلت ووثائق جريدة «الوفد» موجودة وثابتة.. علينا أن نستخدم هذه المياه ولو لمدة 100 عام.. وبذلك نوفر تكاليف إنشاء محطة الرفع ومصاريف حفر الترعة الرئيسية.. ونعتمد علي ري أراضي المشروع- وغيرها- علي المياه الجوفية.
<< يومها ووجهت بحملة شرسة ممن يفهمون.. وممن لا يفهمون، كل علماء الحكومة قالوا ان الاعتماد علي المياه الجوفية فيه إهدار لهذه المياه الغالية، وانها لن تعمر طويلاً. وقلت: لنجرب. لو انخفض منسوب المياه في هذه الآبار.. ننزل بها رويداً رويداً.. إلي أن يقف المشروع علي قدميه ومن عائداته- بعد 100 عام- يمكن أن ننشئ محطة الرفع ونحفر الترعة.. وطالبت بحفر عدة آبار تجريبية في منطقة توشكي.. ولكن يبدو انه كان هناك من ينتفع من إنشاء محطة الرفع العملاقة.. وأيضاً يتولي حفر الترعة الرئيسية وفروعها.. وللحقيقة بدأ الدكتور محمود أبوزيد وزير الأشغال أيامها في حفر عدد كبير من الآبار اعتمد علي مياهها في ري الحقول الزراعية التجريبية بالمنطقة، وهو بالمناسبة من أكبر خبراء مصرفي المياه الجوفية.
<< وللأسف تم إنشاء المحطة- ولا أعرف هل أكل الصدأ معداتها أم ليس بعد- وتم حفر الترعة وفروعها الثلاثة وأنفقنا علي كل ذلك مليارات الجنيهات.
أقول ذلك رغم ان كل ما كان يستهدفه مشروع توشكي هو زراعة أقل من نصف مليون فدان، ويومها تشددت وطالبت باستخدام الري بالرش في الحقول الممتدة.. والري بالتنقيط في الحقول البستانية ترشيداً لاستخدامنا لمياه هذا المخزون الجوفي النوبي المصري.
ووقف معي في هذه الحملة الفاهمون من علماء مصر.. ورفض غيرهم، وكان هدفهم حماية هذا المخزون المائي من سوء الاستخدام. واندفع الجهلة وبعض الحواريين من رجال السلطة والسلطان إلي مهاجمتي رافضين استخدام المياه الجوفية، هكذا دون ضابط أو قانون.
<< فهل يا تري تغير العلم.. وتغيرت معلومات علمائنا.. أم أن السياسة تدخلت هنا، ربما من أجل عمولات عمليات إنشاء محطة الرفع وحفر الترعة وتوابعها.. أم اكتشفنا منابع أخري تمد هذا المخزون بمياه جديدة لم نكن نعلمها من قبل؟! أم أن هناك من يجند العلم لخدمة السياسة ولو عن جهل أو قصور في المعرفة.
وما الذي حدث حتي نجد من كانوا يعترضون علي استخدام المياه الجوفية في مشروع توشكي أيامها ومساحة الأرض المقترحة زراعتها هناك أقل من نصف مليون فدان.
<< نقول ذلك لأن هناك- الآن- من يتحدث عن إنفاق 27 مليار جنيه- وأكثر- علي استصلاح وحفر الآبار الجوفية منها حوالي 16٫7 مليار جنيه لحفر وتشغيل الآبار لزراعة مليون و266 ألف فدان تعتمد علي الري بالمياه الجوفية بنسبة 80٪ من أراضي المشروع.. فهل تغيرت هكذا وبسرعة المعلومات لدينا.
أم يا تري نحن بارعون- بل شديدو البراعة- في إهدار مليارات الجنيهات علي المشروع الجديد، تماماً كما كنا بارعين في إهدار المليارات علي مشروع توشكي منذ التسعينيات.. نقول ذلك لأن الخطة الحالية للدولة تقوم علي حفر 4755 بئراً لزراعة 4 مناطق في سيناء و6 في الصعيد.. بتكاليف 37 مليار جنيه.
<< وهل رجال وزرة الثروة المائية والري، ورجال وزارة الزراعة هم فقط من يملكون المعلومات الدقيقة حول المخزون الجوفي.. وهل هم فقط من يملكون القرار لإنفاق كل هذه المليارات.. ولا يهم هل فشل المشروع، أم نجح. لأن كلاً منهم سوف يلبس الجلابية، عندما يحال إلي المعاش.. ومصر وحدها هي التي ستدفع الثمن.
أقول ذلك لأن مناطق الخزانات الجوفية في مصر تختلف طبيعتها من منطقة إلي أخري.. وهناك ما تتجدد مياهها بسرعة.. وهناك ما تتجدد ببطء.. وهناك ما لا تتجدد مياهها.
<< تلك دعوة- مني- للدولة المصرية لعقد مؤتمر علمي لبحث موضوع الخزان الجوفي.. ومدي عمره الافتراضي.. وأيضاً دعوة لكل علماء مصر وفي مقدمتهم الدكتور محمود أبوزيد والدكتور المغاوري ليقولوا لنا الحقيقة.. قبل أن نهدر المليارات.. وتخسر مصر كالعادة دم قلبها.
ومازال الحوار مستمراً.. يا علماء مصر قبل سياسييها!